بعيدا عن كل هذه القوانين الدولية التي لا تحمي قيم أو مبادئ، ولا تعترف إلا بما معك من رصيد أو حصيد، وبياناتها التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع، ولا تقي من ضربة برد أو نزلة حُمّى،
فما بالك بوباء "فيروسي" خبيث يعتل كل الخلايا، رُمي به تخفيًا، لكنّه ظُلما وجبروتا، بل يُسوّق له، أنه أفضل دواء من أجود طبيب للجسد، حيث المريض، ضعيف الذّات و مَدهُوس من أقوى الذّوات، مُنهكًا، مُتشظي الأوصال، نخب الأفكار، دُوار الرُّؤى يُمنة وشمالا، مُترهّل المَوقف والوُقوف، إلا بإسناد لئيمٍ بعيدٍ من أحد "الأعداء – الأصدقاء"، بثمن غُور، يزيد في الخور والخنث والتّرهل، ويُقوي من خُبث هؤلا "الأعدقاء"، لتأزيم المريض أكثر، توقعا في أخذ ما بقي لديه، وهذا حال أراضي وشعوب "العرب" اليوم، فما بالك بحال فلسطين "المحتلة"، بقرار التقسيم الأممي الجائر لسنة 1948، وزهرة المدائن "القدس"، التي اغتصبت حُرمتها "المقدسة" عام 1967، مدينة "الله"، كما يقول مؤمنوا التوراة والإنجيل،
وبمعنى آخر، مدينة (أور) شليم (إله الكنعانيين)، مدينة "السلام" بين الأديان، التي لم تعرف سلاما وإلى اليوم..؟؟
كيف والسيد ترامب، وطوال سَنة حملته الانتخابية للرئاسيات الأمريكية، كان يتكلم عن البلاد والدول العربية، كأنهم "محمية" أمريكية، وقصعة موعُودة، لكي تتداعى إليها المؤسسات والشركات والتروستات في بلاده، بل أثناء كل مُبارزة من مناظراته التلفزيونية مع السيدة هيلاري كلنتون، كان يُفصّل في أُمور على الأرض، بل ويتوعد بأحقية أمريكا في "الثروات" العربية وعلى رأسها عائدات "البترول"، مقابل ما تسديه من خدمة في حماية أنظمة المنطقة، وأمريكا، هي من يجب أن تكون لها "الكلمة الفصل"، في الأوضاع السياسية في المنطقة ككل... !!
وبعد انتخاب السيد ترامب رئيسا، لم تكن كل "وُعود" حملته الانتخابية، لاستمالة النّاخبين وحسب، بل صارت برنامجا سياسيا لإدارته في تدبير شؤون الحكم، بدأها بقانون "الهجرة" وتلاها بقضم "أموال البترول" إلى أبناك ومؤسسات بلاده، وزرع "خلاف" عميق، بين دول "التعاون الخليجي"، و"تخويف" الدول الخليجية كُلٌّ على انفراد، من "التغول" الإيراني، لمزيد من الضغط، خصوصا بإسفيني الإثنية والتيوقراطية، على "العرب" و على "إيران"، لاستمرار وضمان شنآنهما، مما يضطرهما إلى تكريس وإضاعة كل الجهد للتّضعيف أكثر،
والإستيهام في"التسليح" و"التسلح" بحجة محاربة الإرهاب، ولكن لِـ "الإقتتال" حقيقة، ولو بالنيابة فيما بين شِيَعِهِم، بعيدا عن مد الجسور وبناء الثقة والسلام الحقيقي، بالتوافق والحوار والعمل والتشييد وخدمة شعوب المنطقة ككل، والتركيز رأسا على حاجات بلدانهم الأساسية، المُدعمة والضامنة للحرية والكرامة والحقوق الأساسية لإنسان هذه البلدان في العيش الكريم.
قرار الرئيس، السيد ترامب، عصر الأربعاء 06 دجنبر2017، تنفيدا كما يقول، لقانون الكونغريس الأمريكي لسنة 1995، بنقل سفارة بلاده إلى مدينة القدس، والذي تأهب منه كل الرؤساء الذين سبقوه ( أي كل من بيل كلنتون و وولكر بوش الإبن وباراك أوباما.. !!)، وهو تطبيق أيضا، لوعد انتخابي له على الرئاسة، وهو مطية أخرى، لتصدير بعض مشاكله المحلية، التي تؤرقه في حلقة إدارته القريبة منه بالبيت الأبيض إلى الخارج، علّهَا اعتُبرت من الصفقات السياسية "المحلية-الخارجية"، لتسويات أخرى، يستفيد منها سياسا وانتخابيا في الداخل الأمريكي.
وهذا القرار أساسا، أكثر ما يؤسس له صراحة، هو اعتراف بلا وجود " فلسطين"، وقبر لكل حياد أمريكي في "عملية تسوية الإحتلال"، ودعم صريح، لما يقوله التاريخ المُفْترى به، من الصهاينة، على أحقيتهم بما يحتلونه الآن من فلسطين، والقرار هذا، هو استمرار لمخطط من يدكون الأسافين في شعوب المنطقة، من المحيط إلى الخليج، منذ ما قبل وعد بلفور 2017، المُقسم للمنطقة، بما يخدم مصالح الإمبريالية ويقضي على آمال الشعوب التي كانت تحلم بالإنعتاق من إدارة العثمانيين حينها، فإذا بها وُضعت بين مخالب مصالح القوى الغربية وإلى الآن، ولو بتلاوين وأسماء وشعارات، تقتضيها طبيعة كل مرحلة، يستغلون في ذالك ضُعف حكام المنطقة بـ "هم المحافظة على السلطة"، بأي ثمن.. !!
هذا الوضع بالمنطقة الذي هي عليه، لا يُخجل أبدا مكاتب التفكير الغربية، بل يفتح شهيتها بمزيد من الاستغلال والاستيلاء على المقدرات، وهي مرتاحة الضمير، أمام الفُرص "ولا في الحلم" بعشرات "الملايير"، بل والمئات، التي يُقدمها لهم تخلف وجهل عقول المنطقة على طبق من ذهب، ويحرمون منها الشعوب العربية، وحقهم بها، في التنمية المستدامة، والحكامة الرشيدة، والعيش الكريم. وهو ما شجع السيد ترامب، على وضع "خطة بيزنس"، لحمل أموال الخليج البترولي إلى بلاده، على غير ما ادعاه من "محاربة الإرهاب"، "وتطويق برنامج إيران النووي أكثر، ومحاصرة تمددها على حساب جيرانها"، واستعداده لخطة "سلام" مُفاجئة، في "الأراضي الفلسطينة المُحتلة"، ولكن في حقيقة الأمر، هو إلى حد هذا قرار نقل السفارة، إنّما سيعمل على المزيد من إذكاء الصراعات البينية، والصراعات المضادة، للتمكين ولاستمرار نظرية "الهدم من الداخل"، لمزيد من الإرباك أكثر، لدول وجماعات المنطقة، مما ينعكس سلبا على حياة وأمن وسلام وأمل "إنسان" هذه البلدان.
كل ذلك هُيِّئَ له بعلم أو بدون علم، بإهمال وتلكئ نُخب هذه الشعوب، إما قصورا أو خوفا أو انتهازية، وبات كل "مثقف عضوي، على حد تعبير غرامشي، حقيقي ينتمي إليها، غير مسموع الصوت، وعُوّض على المنصة بـ "المثقف الوظيفي" على حد تصنيف إدوارد سعيد، الذي يُغنِّي لمن يُؤدي، مُتخفيا بلوبي من اللوبيات، مُلتحفا بعباءة عقدية وإديولوجية وسياسية من العباءات، وهكذا جُعلت المنطقة العربية، وتُركت وكأنها حديقة خلفية، يعبثون فيها، أقوياء المصالح الإقليمية، ومعهم الدولية، كما يشاؤون.
يقول الفيلسوف جيل دولوز: "يتعلق الأمر في الأحول كلها، بالإيحاء ليس فقط بأن الشعب الفلسطيني لا يستحق الوجود، بل بأنه لم يسبق له أن كان موجودا من قبل. الغُزاة هم رهط مِن سلالةِ مَنْ تعرّضوا هُم أنفسهم لأكبر محرقة في التاريخ. وقد جعل الصهاينة من هذه المحرقة الشر المطلق. تحويل هذه المحرقة إلى شر مطلق، يدخل في باب الرؤية الدينية والصوفية لا في باب الرؤية التاريخية. لن يُوقف هذا التحويل الشرَّ، بل سينشره على نطاق واسعٍ وسيُعمِّمُه، سيسقطه على أبرياء آخرين،
أي سيفرضُ ترميما يُلحِق بالآخرين بعضا مما لحِق اليهود (الطرد، والعزل، والاندثار كشعب). وبوسائل أكثر "برودة" من المحرقة، سيُراد الوصول إلى النتيجة نفسِها. على الولايات المتحدة وأوروبا أن تعوض اليهود. وسيجعلون شعبا آخر يؤدي هذا التعويض، شعبا أقل ما يُمكن أن يقال في حقه، أنه لا صلة له بما جرى لليهود، شعبا بريئا تماما من كل "هولوكوست"، بل لم يتسن له حتى أن يسمع.".
الشاعر مظفر النواب ساخرا ذات زمان، مُدينا من "باعوا فلسطين"، من أنظمة المنطقة، والتي قاد استبدادها وطغيانها على شعوبها، إلى الهزيمة النكراء، دون أن ينسى تذكيرهم بـ "القدس عروس عروبتكم.. أصرخ فيكم.. أصرخ أين شهامتكم..؟"، يقول الشاعر مظفر النواب في قصيدة أخرى، " أَ قاتلتي بكرامة خنجرك العربي .. أهاجر في القفر وخنجرك الفضي بقلبي.. وأنادي .. عشقتني بالخنجر .. والهجر بلادي.. ألقيت مفاتيحي في دجلة .. أيام الوجد .. وما عاد هنالك في الغربة مفتاح يفتحني.. ها أنذا أتكلم من قفلي من أقفل بالوجد.. وضاع على أرصفة الشام.. ".
وقال محمود درويش، شاعر المقاومة، من ديوان، لا تعتذر عما فعلت، قصيدة "في القدس"، "في القدس؛ أعني داخل السور القديم؛ أسير من زمن إلى زمن بلا ذكرى تصوبني.. فإن الأنبياء هناك يقتسمون تاريخ المقدّس، يصعدون إلى السماء و يرجعون أقل إحباطا وحزنا؛ (..) أمشي كأني واحد غيري، وجرحي وردة بيضاء إنجيلية، ويداي مثل حمامتين على الصليب.. تحلقان وتحملان الأرض .. لا أمشي، أطير، أصير غيري في التجلي. لا مكان ولا زمان. فمن أنا؟ فالمحبة والسلام مقدسان وقادمان إلى المدينة."، فهل سيبقى حال لسان العرب اليوم، رغم كل الوهن، كلسان حال عبد المطلب عندما حاول أبره الأشرم هدم الكعبة المشرفة...؟
فقرار السيد ترامب الأخير، هو قرار آخر، مادامت المنطقة العربية أكبر مكان بالعالم، لتصريف الأسلحة، ووجود الاقتتال الدّموي، وبلاد فلسطين محتلة و مدينة القدس أيضا، فهو قرار إذن، من سلسلة القرارات التّي تُعدُّ وتُحبك بمهنية عالية في "البرمجة العصبية"، و"البسيكو-اجتماعية"، المتحكمة في مصير الشعوب، ولن يكون القرار الأخير ضد نفسية شعوب المنطقة، القرار يتوخى أكثر الآمال مستقبلا، أكثر مما يتوخاه حالا، لصالح من يستغلون وهن الشعوب وغباء النخب والحكام،
ويستولون بسهولة ويُسر على المقدرات والثروات، هو قرار، لمزيد من التّضعيف والاستفزاز والإبعاد والتّبعيد أكثر، عن المشاكل والهموم الحقيقية للمنطقة، إنها أساليب أكثر تطورا في إرهاق الدول والأنظمة والمؤسسات وتيئيس النفسيات والعقول، الفردية والجماعية معًا، وجعلها تغوص لتُجْهد وتُتْعب أكثر، في بَيْنِيَات صغيرة وبليدة جدًا، عوض الإنتباه إلى التآزر البيني، والانكباب على الأهم لكشف ثراء التآلف، وجعل كل الاختلافات ليس تخويفا أو بُعدا سلبيا أو استقواءًا بين الذوات، بل سببا وجيها وفُرصا عزيزة وتأصيلا ومُنطلقا غنيا، لتوسيع الفضاء المعيشي الحيوي أكثر، وتحصين المكان الوجودي، بالأمن السّلمي، وبعث الأمل في الحياة، بغد أفضل، للفرد وللجماعة، عوض هذا السواد ورُعب الصراعات وسداد الأفق...!!
ليست هناك تعليقات