نمر بالكثير من التجارب في حياتنا القصيرة.. بعضها ينسينا تلك الوجوه الكريهة التي ألفت عيوننا على رؤيتها أثناء نشرات الأخبار...
وبعضها يندى لها الجبين و أخرى تجعلنا نذهب إلى مكان هادئ ..على شاطئ هادئ ..نجلس على رقعة الرمال..حيث يمتد أمامنا ذلك المدى الأزرق و يرسو بصرنا على تلك السفن االمسافرة التي تعيش سعادتها و هي تصارع الأمواج تترنح و تتأرجح على المحيط بطمأنينة غامرة. و حولها يتطاير سرب من الطيور تنقر الاشرعة أو بقايا فتات الطعام المتروك على سطح السفينة دون صراع بينها. فترفرف فوق كتف القبطان ليمد يده باسطا كفه للحمام و اليمام فتندفع شوقا إلى مصافحته ..ثم يمسك إحداها ليضع قبلة على وجنتيها..فيطير الحمام خجلا ..فينقل روحه داخل روحها ..لينسجما و تتماهى الكائنات .
في هذه الخلوة الشرعية مع ذواتنا يستباح لخيالنا بأن يسرح عاريا بثياب البحر.. و يبقى شاهدا على تلاقي البحر باليابسة في زواج عرفي.
فأول ما يتبادر إلى أذهاننا ..قصة حب لم نعشها..أو وجوه جميلة مرت بحياتنا تاركة أملا و بسمة على محيانا..تجود علينا مخيلتنا بتأملات ترمينا إلى جزر لم تطأها أقدامنا.
لكن ما يشدني إلى غموض روحي أنها تستخدم الماء كفراش للعشق و التأمل ..و انا من طبعي يستهويني الغموض المفضي إلى الحيرة ...فأتركها تندفع باحثة عن شيء في الأعماق ..فتستلقي على سطح الماء فاتحة ذراعيها للسماء..لتغيب بتسليم خارج عن الإرادة ..تاركة للبحر أن يداعبها ..وكم من مرة اتهمت روحي بالجنون لأنها تتدرب السير على الماء.
لكن حقيقة عندما يتحرر المرء من خوفه يستطيع أن يلامس حتى نجوم السماء...و من نال منه الخوف فإن الحياة لن ترحمه ستضعه في شباكها و تهضمه على مهل مثل عنكبوث شرس.
في هذا اللقاء الموصول مع اللاوعي ..أسدل الستار على كل التاريخ الذي تعلمته في المدارس و المعابد ..و المنابر الإعلامية ..ليتوحد عالمي على تفكك الذكريات الجميلة في مخيلتي.
فعندما تضيق الاجساد بالأرواح تنطلق أحلامنا لتكسر الأفق البعيد و تخرج عن المألوف و تحطم أسوار السجون التي تحاصر الروح و الجسد...و تقتل الظلام الذي تسكنه العفاريت كما أرادوا أن يوهموننا.
فكم من مرة أردت أن أصطدم مع تلك الكائنات الغير المرئية و انا ادخل القبور ليلا...فكل تلك الأساطير كانت جدارا من الخوف لا يتعداه العقل و كنت اتمنى أن يخترق جسدي أجساد الجنيات الجميلات التي كانت تحدثنا بهم جداتنا ...فكل تلك الحكايات كانت تتكدس في الروح و الذاكرة ..دون أن تغير شيئا في الواقع..
في كل رحلة نقودها في حياتنا تعلمنا أن للتاريخ ذاكرة قوية يحفظ محطاتنا عليها بأدق تفاصيلها ..فتأسرنا الابواب المغلقة حتى تفتح.
|
ليست هناك تعليقات