في حافلة صغيرة مكتظة بحشد من الناس كل لديه وجهة هو قاصدها.
دخلت لمثنها مترجيا كرسي مريح أضع جسدي المتعب ورجلاي المهدودين ، بعد تعب المشي في أرجاء الفيلاج المدينة ، قطعت تذكرة الذهاب ورحت أبحلق بعيني المغمضتين، هنا وهناك وسط ذاك الحشد الكبير.
وبعد الملل الذي أصابني من البحت أخذت فجوة صغيرة بين رجلي سمين به شحم كتير ومسنّة تبلغ من العمر عتيا شمطاء معوجة الظهر أبان الزمن في وجهها على علو كعبه في زخرفته بالتجاعيد.
أرى عشرينية فائقة الجمال سمراء كرمال الصحراء القاحلة تهب عليها رياح المساء لتذهب بعض حبّاتها في عينيها ، كما أذهب ريح الحزن حبّات الفرح من مقلتيها الزرقوتين كمحيط أطلنتي واللتان يكسوهما دمع الإنكسار ومر العذاب.
تنظر لي بإبتسامة مزيفة، تلك التي لم أصدقها ، فقط أخذني الحزن القاتم تلذي يتملك أعينها البريئة ،تريد في كل مرة أن تسلبني بشفتيها الكاذبتين لكن بدون جدوى فقد سبحت وتعمقت داخل حزنها ناسيا تماما من حولي أخدني تفكيري بعيدا جدا.
أتساءل ؟!!
كيف هي حالتها الأن هل الحزن المختبئ داخل أسوار محيط عينيهايحكي فعلا قصة مأسوية تحتاج لمن تسردها ، أم هي خلقة ربانية تضفي الجمال وتستلهم العقل وتفتن القلب.
بلورة وسط حشد من الإبَطِ المُعرقة والمكسوة شعرا كتيفا كحقل به زرع يسير ،جوهرة عيناها تتكلم ألف حكاية ألم وعذاب.
لازالت تمرقني بأعينها وكأنّها تقول لي تعال بجانبي فالمكان فارغ وبه مساحة تكفيك لتجلس.
بفطرته القلب فهم الرسالة ولكن العقل يستعمل المنطق فماذا لو صرخت في وجهي وأشبعتني شتما وسبا وأن كل تأويلاتي راحت فرضيات من صنع حرارة الشمس فوق رأسي حين أكترت من التصعلك بين أسوار المدينة.
حنيت رأسي لبرهة من الزمن دقائق معدودة ثم رفعته على أمل في أن يتغير ولو قليل من ذاك الحزن المقيت ،وأجدها مبتسمة تقول لي بها، كم أنت ساذج يا هذا.
لكن لم تزل نظرها عنّي بنفس الحالة التي تركتها قبل إنحنائي ،مما دفعني للذهاب والجلوس بجانبها ومع أن الرحلة لازالت طويلة لمقصدي وموعد نزولي من الباص لا يزال بعيداً ، قررت الدردشة معها بتطبيق مقدمات مملة عهدها الكل وعرفها، لكن كانت طيبة ورقيقة مستواها يدل على أنها مثقفة ومتعلمة ليست من فتيات الدوار أو الدواوير المجاورة اللائي يهربن من سخط الواقع لهن ويقلن الباص لوجهة غير معروفة ، إما لإغتصاب ذئاب لشرفهن تحت خزعبلة الحب الحقيقي الذي يرسم من أجله قلب بسيف يخترقه كما يخترق قلبهن هم بكلماتهم العذبة التي كتبت تحت القلب بدورها على شجرة الخيزوران الطويلة ونقشت بسكين ذبح الحب وترك دماء الفتايات تسيل ،أو أنهنّ رفضن الزوج الذي قدمه لهن والدهن وهربن قاصدين المجهول.
لكن هي ليست من هذا النوع بتاتا كما بدأت تسرد لي ،فهي متعبة من الفقر الذي يطال عيشهم في أعالي الجبال الباردة فهربت تبحت عن عمل ومسكن جديد وتجلب أمها تسكن معها في شمس فاس² الحارة ليذوب ثلج الفقر ويعشن حياة الرفاهية على العموم.
حنّ قلبي لطريقة ترتيلها لقصتها، وسكبت ماء العطف على فؤادي وإنشرح صدري لتقديم خدمة صغيرة لها ، ذهبت معها وبحثن عن صديق مقرب لي.
إتصلت به على هاتفه وأخبرته القصة وقلت له إبحث لها عن منزل عندكم هنا لتعيش فيه ، فبمعزتي الكبيرة عنده أعطاني منزله القديم شيئا ما لكن به أتاتاً غربيا جديدا يحتاج فقط يوما كاملا من التنظيف.
فشكرتني بأعينها المحيطيتين الزرقاويتين وإمتنت لي أشد الإمتنان وعدت سعيدا حتى أغراضي لم أقم بقضائها.
يكفي الجمال تعذيبا ويكفي أن نعيش الحزن بسبب الفقر.
|
ليست هناك تعليقات