مع أواخر عقد التسعينات، اشتد الجدل حول العولمة، فهناك من اعتبرها ظاهرة اجتماعية كونية، وعند آخرين حالة، وبعضهم عرف العولمة باعتبارها حقبة تاريخية وموصولة بقاطرة النظام العالمي الجديد، وتبشر بتنامي شكل جديد في العلاقات الاقتصادية بين الدول، وأن تداعياتها بالضرورة ستلقي بظلال كثيفة على الواقع الاجتماعي.
ومن هذا الطرح رأى علماء الاقتصاد أن العولمة اصطلاح اقتصادي، لأن هدفها الاستراتيجي خلق سوق عالمي، تنداح فيه كل الموانع والحواجز، مما يساعد على تحقيق فكرة »نهاية التاريخ« التي روج لها »فوكوياما« الأميركي الجنسية الياباني الأصل، كأن العولمة الاقتصادية نذير لخلع العباءة الوطنية، وإلباس الجميع زياً موحداً، كما أنها تؤدي إلى محو الجغرافيا وتقليص ظل الدولة، بعبورها للحدود من خلال الشركات متعددة الجنسيات..
وشبكات الإنتاج والتمويل، حيث يصير بوسع قوى السوق العالمية تمرير أجندتها كسلطة اقتصادية، مما يعني تراجع دور الدول حيث ستتولى مؤسسات جديدة حق إدارة اقتصاد العالم، بل وإعادة ترتيب النشاط البشري برمته!
ثم برز تيار جديد يرى أن العولمة ليست نهجاً جديداً، بل حقبة من حقب تطور الحياة، وأنه من السابق لأوانه الحديث عن عولمة الثقافة أو عصر انبعاث ثقافة أو حضارة عالمية، ذلك أن الاقتصاد وحده لا يؤسس حضارة، كما يرى علماء الأنثروبولوجيا.
وحسم الجدل الفكري »ديفيد هيلد«، الذي عرف العولمة بأنها »منظومة التحول في شبكة العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، الذي يحدث بدوره تحولات هيكلية وبنيوية تطال كافة جوانب الحياة«، وفي ظني أنه تعريف مقبول. أما مظاهر العولمة فيرى أنها تتركز في أربعة محددات، لعل من أهمها ثورة الاتصالات وتقنية المعلوماتية، والشركات العابرة للقارات، ومنظمة التجارة الدولية..
والمحكمة الجنائية الدولية. ولعل أكثر المستجدات الفكرية التي ترفض ربط العولمة بعجلة الاقتصاد، تلك القنبلة التي فجرها أستاذ علم الاقتصاد الاجتماعي »آلان كايي« و أستاذ الاجتماع الفرنسي »بيير بورديو«، فعندهما أن الإنسان كائن اجتماعي وليس كائناً اقتصادياً بالدرجة الأولى، وأن تجارب العقد الأول من الألفية تؤكد أن النمو الاقتصادي وحده لن يوصل البشرية إلا للموت الجماعي.
وأنه من الأفضل من الآن إيجاد بديل للنظام العالمي الجديد، والبحث عن مؤشرات جديدة يقاس بها تقدم وتخلف الدول، بعيداً عن أطروحات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، لأنهما من أسباب إفقار دول العالم الثالث غير النفطية. وها هي دول الاتحاد الأوروبي، واحدة تلو الأخرى، تغرق تدريجياً في بحر الديون، وهي لم تستفق بعد من إغماءة الأزمة الاقتصادية،..
وهي حسب آخر التقارير المنشورة، بحاجة إلى 500 مليار دولار للتخلص من أعباء تلك الديون، وأن البنك الدولي ليس بمقدوره سوى توفير 200 مليار. إذاً، إلى أين تقودنا عولمة الاقتصاد؟
حتى الآن لم يخرج لنا البنك الدولي بأي وصفة أو استشارة للتخفيف من حدة الألم، ناهيك عن علاجه، وحتى مؤتمرات »دافوس» لم تقابل إلا بمظاهرات الرفض من قبل الآلاف من معارضي العولمة الاقتصادية، الذين أدركوا أن تكتل الشركات متعددة الجنسيات سيقودهم إلى مضمار الموت الجماعي، دعك من نادي باريس واللجان التي تنعقد ثم تنفض ومأزق العولمة ما زال مر المذاق.
يرى »كايي« في هذا السياق، أنه من المناسب والأفضل للدول النامية والناشئة، عدم التعاطي مع النموذج الغربي الرأسمالي.
والذي لا تزال الدول النامية تستلهم منه تجاربها بتقليد أعمى، ظناً من بعض قادتها أنه يوصل إلى طريق الخلاص والرفاهية الاجتماعية، بينما كل الدلائل تؤكد أن هذا النموذج يعيش اليوم »المرحلة الأخيرة في حياته« على حد تعبيره، وهو محكوم بالزوال المؤكد!
ومن ثم لم يعد بالإمكان الدفاع عنه. ويضيف »كايي« أن فرض نمط حياة واحد لجميع البشر أمر لا يمكن، ويعتبر سابقة تاريخية، وهو ما تبشر به عولمة الاقتصاد، فهل بالإمكان أن تقود دولة واحدة جميع دول العالم وأن يحكم جميع الدول نظام اقتصادي واحد هو اقتصاد السوق؟
إذاً، ما الحل للخروج من نفق العولمة المظلم؟ يرى »كايي« أن المخرج يتبدى في »ثورة أخلاقية« سلمية تعيد للإنسان آدميته.. ثورة تعترف بالآخر، وإذكاء روح التعاون الدولي وليس الوصاية، لأن البشرية بسبب العولمة ستعاني من حالة فقر دم أخلاقي، والأخلاق هي أهم عنصر يساعد البشر للعيش في سلام، إذ جعلها »أفلاطون« أساساً لجمهوريته الفاضلة..
ذلك أن الركض المحموم وراء النزعة المادية. وهي جوهر الفكر المادي الغربي اللاأخلاقي، لا يقودنا إلا إلى حروب جديدة، وإفلاس لا مخرج منه. علينا أن نقف بضراوة ضد الاجتياح الذي تدعو له الليبرالية المعولمة وسيادة اقتصاد السوق، وهيمنة مفاهيم النظام العالمي الجديد، وليس هو كذلك.
والأهم من ذلك كله، على علم الاقتصاد أن يقترب أكثر فأكثر من العلم الاجتماعي. وينهي »كايى« إفادته التي سماها »العيش المشترك«، بقوله إن الفلسفة وتجارب الحياة المعاشة، كلها تقول شيئاً واحداً، وهو أن النزعة المادية والفردية المطلقة، التي دعت لها مدرسة الاقتصاد الكلاسيكي بزعامة »آدم سمث« وأتباعه، هي ضد، بل ونقيض للإنسانية، وأن فشل العولمة الاقتصادية أصبح ماثلاً للعيان.
ومن أجل ذلك فإن عالماً جديداً لا بد أن يعاد تشكيله في ما تبقى من ركام الحياة المعاصرة، ذلك أن تحديات العالم القائم تحتم بروز اقتصاد جديد، اقتصاد اجتماعي معرفي، يبنى على أنقاض مخلفات العولمة الاقتصادية.. اقتصاد يتأسس على الاعتراف بخصوصية الآخر، وتبني مفاهيم الشراكة والتعاون وتبادل المنافع بين الشعوب، والإبقاء على ثقافاتها وإرثها الحضاري، بعيداً عن الهيمنة والتبعية والإقصاء، ذلك أن مواجهة العالم القائم تتطلب مواجهة
|
ليست هناك تعليقات