إن نشأة المدن و التجمعات السكانية من الظواهر المهمة في حياة الإنسان كونها تعكس الطبع الاجتماعي لهذا المخلوق ، سواء أكان طبعه الاجتماعي هذا مرتبط بالحب أو بالكره .
و تبيَّن الدراسات التاريخية و الآثارية أن أول التجمعات السكانية المستقرة قد ظهرت على سواحل البحار و كذلك على ضفاف الأنهار ، و كانت هذه التجمعات في البداية حول مصادر المعيشة ، و حول المراكز الدينية ، فكانت في البداية كقرى متفرقة ، ثم انبثقت المدن عن تلك القرى البسيطة ، و قد ظهرت و تكونت المدن نتيجة تطور القوى العاملة المنتجة التي عملت في الحرف المختلفة[1] .
كما و لقد اختلط العمل المهني في أماكن التجمعات بالاستثمار الزراعي ، لذلك كانت المدينة مركزاً زراعياً و حرفياً و تجارياً بالإضافة إلى كونها مركزاً دينياً و إدارياً .
إن نشأة و تطور المدن من القرى قد ارتبط بطبيعة و نوع المساكن ( البيوت ) التي كان الإنسان يسكن فيها ، فلا يمكن أن نعتبر أن أول المدن قد تكونت من الكهوف ، أو في المناطق الجافة ، أو في المناطق البركانية .
ذلك ان شرط نشوء المدن هو تمتعها بنوعٍ من الإستقرار ، إضافة إلى سبب للبقاء ، و مصدر للعيش ، و قدرة على التطور و التكاثر ، مع إمكانية الصمود أمام التقلبات و الأخطار الطبيعية و البشرية .
و لقد أبدعت موهبة الاختراع البشرية تنوعاً هائلاً لأشكال البيوت ولدتها ظروف مراقبة التقلبات المناخية و الإمكانات الجغرافية . فمثلاً نجد أن المساكن الواقعة قرب البحيرات و المستنقعات قد شيدت فوق أعمدة أو عوازل معينة .
فالبيوت هي محل للسكينة و الاستقرار النفسي :
قال تعالى : (( وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً )) سورة النحل ( 80 ) .
و كذلك هي محل للشعور بالأمن و الاستقرار من الطوارق و الاخطار :
قال تعالى : (( وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ )) سورة الحجر (82) .
إن الإنسان عندما بدأ بكتابة تاريخه ، و حين بدأ عصر الثقافات الراقية ، فإن مجموعات كبيرة من القبائل اتحدت معاً لتشكل مجتمعات تتجاوز مفهوم القرية .
ساعد على ذلك أدوات العمل التي اخترعها الإنسان و طورَّها على استخدام الحجارة المطروقة كمادة لبناء المساكن و المنشآت العامة فنشأت المدينة .
لم تكن الأبنية و النصب الضخمة مجرد شواهد على السلطة و الغنى ، بل أيضاً على متانة البناء الذي استطاع الصمود عبر القرون ، و ما بقي منها لحد الآن إلا شاهد و عبرة على ذلك .
قال تعالى : (( وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ )) سورة العنكبوت (38) .
و قال تعالى : (( وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ ))
سورة الصافات ( 137 ) ـ (138) .
إن المدن تتصف بكونها أماكن مركزية تقوم بتقديم خدماتها
ووظائفها لسكانها فضلا عن سكان الإقليم ،
ومن هنا فهي تعبَّر عن أهميتها الاجتماعية والاقتصادية ضمن إطارها الإقليمي ،
ويمكن التعبير مورفولوجياً من تلك المعالم الجغرافية التي تحدد الهوية الوظيفية للمدينة بمظهرها وهو الكل المرئي منها خطة المدينة ونمط أشكال الأبنية ونمط قطع الأراضي التي تعمل بصيغته متفاعلة وذات رباط وثيق وعلاقة عضوية جدلية تؤكد الحقيقة الجغرافية لذلك المظهر العام . كل ذلك وفقاً لطبيعة العوامل والمتغيرات التي أسهمت في تشكيلة طبقاً لطبيعة المرحلة اقتصادياً و اجتماعياً و حضارياً وتقنياً وطبيعة التحولات و المتغيرات ضمن سلسلة التراكم الحضري( تاريخياً ) .
إن البحث في مورفولوجيا المدينة ـ أي مدينة ـ
إنما هو خوض وظيفي ومكاني لإعطاها هويتها وتحديد ملامحها كحقيقة جغرافية ،
ومن ذلك طبيعة التفاعل بين ( الوظيفة ) و ( الشكل ) اللذان هما عاملان غير متشابهين ، إذ غالباً ما تكون العلاقة بينهما معقدة وصعبة الفهم عبر مراحل تطور المدينة .
لقد وضعت تفسيرات عديدة لنشأة المدينة ، كانت الأولى منها تدور حول قضية حفظ الكيان الإنساني من الأخطار الطبيعية و البشرية ، تبعها بعد ذلك تفسير تجاري لنشأة المدينة هو في حقيقته تفسير قائم على وجود التجمع الأول الذي أشرنا له ، إذ لم يخرج عنه ، بل هو متفرع عنه .
فمثلاً ( إن التفسير العسكري لأصل المدينة يمتُ بصلة كبيرة إلى التفسير السياسي ، ذلك التفسير الذي يبيَّن أن الناس ، من تجار و حرفيين ، كانوا يجتمعون في هذه الحصون و القلاع لأجل حماية أنفسهم و تجارتهم من خطر الغزوات و الهجمات . و بمرور الزمن تتزايد أهمية ذلك الموضوع بزيادة حجم التبادل التجاري فيتحوَّل إلى مدينة . و المدينة السياسية عند أنصار التفسير السياسي تُعدُّ من أقدم أنواع المدن و أكثرها وضوحاً )[2]
.
أما تعريف المدينة فقد وقع الأختلاف فيه أيضاً عند المتخصصين أنفسهم
( فما الذي يعنيه هؤلاء بالمدينة ؟ فمن بين التحديدات التي توصَّل إليها المتخصصون الذين يميلون إلى نظرية السكان و العوامل الاقتصادية التعريفات الثلاثة الآتية :
1ـ المدينة هي المكان الطبيعي للفرد المتمدن المتحضر و ذلك لأنها تمثل رقعة حضارية خاصة .
2ـ المدينة هي أي مكان مستقر ينشغل فيه أكثرية شاغليه بأنماط إنتاجية غير النمط الزراعي .
3ـ المدينة هي أي مكان محدد من الأرض يجتمع فيه الناس من مختلف الأجناس .
و أن تكون نسبة تجمعهم كثيفة )[3] .
و لقد حدد الباحث الاجتماعي ( فيليب هوسر ) جملة شروط و خصائص لتحديد وضعية مكان ما من الناحية التمدنية و شروطه هي :
توافر الكثافة في حجم السكان ، و التقدم التكنولوجي ، و مدى الإمكانية في السيطرة على الظروف الطبيعية ، و تطور المؤسسات الإنتاجية و الاقتصادية و السياسية .
على أن الأمر و بشكل عام لم يكن بعيداً عن فكر العلماء المسلمين من جغرافيين و بلدانيين أو مؤرخين ، فلقد كانت لهم نظرتهم العلمية الخاصة ، كما و أنهم قد أسهموا في تحديد المعايير الخاصة لما يسمى بـ( المِصْر ) أو ( المدينة ) .
فمثلاً نجد أن العالم الجغرافي ( المقدسي ) قد وضح في كتابه ( أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم )
شروط المدينة أو المِصر إذ يقول :
إن المِصْرَ في رأي الفقهاء يقصد به كل بلد جامع تقام فيه الحدود و يحله أمير و يقوم بنفقته و يجمع رستاقه .
ثم يقول معقباً :
أن المصر كل بلد يحله السلطان الأعظم و يجمع فيه الدواوين و تقلد منه الأعمال[5] .و هذا ما نجده كذلك عند ياقوت الحموي في معجمه الجغرافي[6] ، و عند ابن خلدون في مقدمته[7] .
-------------------------------------------
الهوامش و المراجع
[1]: كـ( استخراج المعادن وتصنيعها ، وأعمال البناء ، وصناعة الأنسجة والملابس ، و غيرها )
[2] : Kenneth , Bolding : " The Death of the City : A Frightened Look at Past Civilization" in The Historian and the City , p.133
[3] : دراسات في تاريخ المدن العربية الإسلامية ، عبد الجبار الناجي ، ص 17 .
[4] : Philip Hauser : Urbanization : An Over –View in the Study of Urbanization ,p.102
[5] : أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم ، المقدسي ، ص 47 .
[6] : معجم البلدان ، ياقوت الحموي ، ج4 ، ص 114 ، ص 421 ، و ج5 ، ص 396 ، ص 389 .
[7] : المقدمة ، ابن خلدون ، ص 347 ، 360 .
ليست هناك تعليقات