(1)
عند "بابِ النّيرب"(11)، فوقَ كومةٍ من الدّخان المُبلَّلِ، أَلتقي كيسَ خيشٍ وفروةَ دُبٍّ موحِلةً وامرأتَيْن؛ واحدةٌ تمسكُ، بكفِّها المبتورةِ، سيفَ الدّولة من أطراف ردائِهِ، وثانية تغنّي أغنيةً صخريّةً.
تردِّدُ الأولى نواحَ حمامةٍ.
تقولُ الأخرى، في نهايةِ الموِّالِ الهابطِ من جبلٍ بعيد: أسقطتْني قافلةٌ من دماء أخوتي ها هُنا، على أطرافِ دربِ الحرير.
ثمَّ تذرف دمعةً جمعَتْها من جبالِ الأناضول، وتعلّقُ على "منزل الرُّوح" منديلًا أرمنيًّا للذَّكرى، كانت اشترَتْهُ قبل أن تموتَ من خان "الهَكيدون"(2).
(2)
عند "بابِ الحديد"، يتراكمُ الصَّدأُ. صدأٌ ينبتُ في خُوَذِ الجنودِ والعماماتِ والبابيونات والطّرابيش. وفوق الشّارعِ المكسور، يخرجُ صوتُ هولاكو المنقوشُ على الحجارةِ البيضاء. مُصوّرون صحفيّون بقبّعاتٍ فولاذيّة، يُحلّقون فوق المقابر، لالتقاطِ ما تيسَّرَ من لحمٍ وآهات.
وفي جهة الغرب، على ظهور الجبالِ العمياء، تستبدلُ الجيوشُ سيوفَها البرونزيّة بسيوفٍ حديديّةٍ ووجوهٍ مُقشَّرة، وترجمُ الحجارةَ بالحجارة.
(3)
في "خان العطّارين"، غيرَ بعيدٍ عن "بوابة الياسمين"، على بُعدِ استغاثة من بابِ أنطاكية، حيث يفقدُ المعتصمُ سمَعَهُ، تشتري آنسةٌ شقراءُ قارورةَ عشبٍ وكيس توابِل وحجرًا مزروعًا في السُّورِ المزركَشِ بالأرابيسك، وتمضي تحتَ عرائش الرّمادِ، على وقع سمفونيّة لبيتهوفن.
لم تنتبهْ تلك الآنسةُ إلى تمثالٍ برونزيٍّ جاءَ إلى هُنا من قرطاج، لكنّهُ أضاعَ طريقَ العودةِ إلى ميناء الإسكندرون، منذ أن صارَ الموجُ يكسرُ القُدودَ الحلبيّةَ، ويهدرُ بكلِّ لُغات الأرض، ما عدا العربيّة.
(4)
حتّى القلوبُ تقشّرت. يقولُ الخارجون من "باب النّصر":
"سيختلفُ اللّصوصُ على أجسادِنا، عندما تنتهي الحربُ".
وفي البعيد يتنافس إبليسان على كسب وُدِّ الأمَم.
لكِنْ في سوقِ النحَّاسين، تصمتُ النّاياتُ والعيدان، حين تغتسلُ اسطنبول بصابون الغاز الحلبيّ. وعلى بُعدِ عشرينَ جمجمةً، يستبدلُ الباعةُ المتجوّلون بضاعتَهم، فيبيعون الخبزَ المحروقَ ودمًى تذكاريّةً بكلّ أشكالِ الهزائم.
(5)
في الطَّريق من "باب الفرج" إلى "خانِ العَتمة"، ألتقي شيخًا آراميًّا، يقرأ صحيفةً مكتوبةً على جلدِهِ القديم.
يفردُ لحيتَهُ الشَّائبةَ على الأرض، ليُخفي ألفَ عورة. ثمّ يلقي ابتسامتَهُ الأخيرةَ، قبل أنْ تخطفَه قذيفةٌ.
(6)
جهنّمُ تمشي على حذاءٍ رفيعٍ، بتنّورةٍ زهريَّةٍ من طراز "أولترا ميني"، فتكسرُ بكعبَيْها الباسقَين "بابَ الجنان".
ستائرُ البيوتِ مُعلّقةٌ على الرّكام.
وفي الزّاوية، عند "مقهى العروبة"، يختلفُ الموتى لأيِّ شيطان يتشيّعون.
(7)
مقالاتٌ مشوّهةٌ. مقاماتٌ مهشّمةٌ.
لكنَّ صاحبَ البذلةِ الحمراء، بغرّتِهِ المُستعارة، يلقي خطبةً في الباب السّابع، عن وصايا الباءِ والحاءِ والرّاء. يقولُ: البحرُ لنا، والحربُ لنا، والحِبرُ لنا، والرِّبحُ لنا.
وفي الختام، يقومُ أخرُ طفلٍ في "باب المقام"، يحمل ُ أخرَ ورَقة، ويلقيها على الشّاشة.
(8)
بين "باب قنّسرين" و"باب الأحمر"، تهربُ الرّيحُ حافيةً.
أجراسٌ مقطوعةُ اللّسان، تتدلّى من ألسنةِ الحَريق.
أذانٌ ينقطعُ في منتصفِ الدَّرب بين سماءَيْن.
أمّا نحنُ، فنموتُ، للمرّة الألفِ في الدّقيقة، على أبوابِ حلب.
____________
هامش:
(1) كل الأسماء الواردة، هي أسماء أبواب حلب القديمة وأسواقها.
(22) الهكيدون كلمة أرمنيّة وتعني "منزل الرّوح". وهو اسم خان في حلب القديمة.
|
ليست هناك تعليقات