أخبار الموقع

اهــــــــلا و سهــــــــلا بــــــكم فــــــي موقع مجلة منبر الفكر ... هنا منبر ختَم شهادةَ البقاءِ ببصمةٍ تحاكي شَكلَ الوعودِ، وفكرةٍ طوّت الخيالَ واستقرتْ في القلوبِ حقيقةً وصدقاً " اتصل بنا "

« هُنا وهُناك » ...بقلم: فريد غانم



 « هُنا وهُناك »
 بقلم :  فريد غانم
 22/1/2017


« مجلة منبر الفكر» - فريد غانم


(1)
 كُلّما أكتشِفُ سِرَّ العُلاقةِ بين الوقتِ وصخرةِ البازلتِ التي التقيْنَا تحتَها مرّةً، أركضُ في سُرعةِ الضَّوءِ كي أبقى هُناك؛ فقاعات ُالزّبدِ العتيقِ تُدغدغُ أخمصيَّ، حصاةٌ تقلِّدُ ثُؤلولةً أورقَت تحتَ لحافي في ليالي الصّيفِ الصّغيرة فوق السُّطوح التي انهارت.
وهناك ما تزال ُالشَّمسُ تُبدّلُ فساتينَها كلَّ يومٍ، وتُلقي التّحيّةَ على بقايا ظلِّنا.

(2)
هُناكَ التقيْنا مرّةً.
يومَها كان هُناك هنا، وكان هُنا هُناك. على الشّاطئ المقيَّدِ بالصّخرِ والقُبُلات المائيّة، مرّتْ عرائسُ البحر وحكاياتٌ ولغاتٌ وآثارُ أقدامٍ حافيةٍ محاها الرّملُ المُشرَّدُ. وهُنا ما يزالُ الطّفلُ السّومريُّ مُعلّقًا على ساعةِ البُرجِ، يغزو الشّيبُ غُرَّتَه كلّما أدارَ العقاربَ إلى الوراء.

(3)
هُنا، في المكانِ الذي مرَّ بِنا ولم يعُدْ، يجثُمُ الوقتُ. أحفادُ النّوارسِ التي عرفناها تُنمِّشُ وجهَ السَّماء. حُطامُ السَّفينةِ التي بنيْنَاها يكتسي بعباءةٍ من طحالبَ داكنةٍ. بيوتٌ تشيخُ في الحيِّ القديمِ. طائرةٌ تحرثُ مرجَ الهواء. دخانٌ محلوجٌ يحطُّ على سنديان الجبلِ القابعِ في الأعالي منذ البداية.
وأنا، هنا وهناك، ما زلتُ أنحني لألملمَ ذاكرتي المُبعثرة.

(4)
في الكوخِ المسكونِ بالرُّطوبةِ، يجلسُ بائعُ التّذاكر. بطنُهُ منفوخةٌ بالأُمنياتِ الميِّتة. حاجباهُ أفقانِ مكسورانِ. منكِباهُ أوسعُ من بابِ الكوخ. قدماهُ عامودا ملحٍ دبِقٍ. ذقنُهُ من مَرَسِ الأشرعةِ التي اهترأت في صراع العناصر الأولى، وعيناهُ مغارتان.
يقولُ لي: رأيتُك تمرُّ من هنا قبلَ ألفِ عام، على صهوةِ حصانٍ مُتعَبٍ.
أقولُ له: مات الحصانُ ولم أمُت، إلّا لكي أحيا قليلًا.
فيقولُ: أمّا أنا فقد كبرتُ في هذه العُلبة الخشبيّة. خذلَتني نبوءتي وأتعبني المكان، ولستُ أدري متى يأخذني الموجُ إلى آخر البحر.

(5)
هناك كنّا، حينما كان هُناك هنا. 
هنا كنّا، حينما كان هُنا هناك.
كان الوطنُ عصفورًا وفَيْ جَنةً برّيَّةً وسفحًا خفيفًا يلعبُ فيه الهواء.
وكان الوقتُ يلهو بين الفصول ويرتاحُ في تجاعيد وجهي، والسّوسنُ يزهرُ كلّما فتَحْنا نشيدًا، والجرنُ يكبِرُ في الصّيفِ، يأكلُ ذهبَ الخريفِ، ويصغرُ في الشِّتاء.
والآن، كلّما بدّلَتِ الأوطانُ جلدَها، ترتدي الينابيعُ التي مرّت بنا بذلةً من الصّدأ، وتسكنُ في الزّجاج.

(6)
لا وقتَ في هذا الوقتِ؛ ستائرُ أوتوماتيكيّة تُحرِّكُ الرّيحَ.
لا مكانَ في هذا المكان؛ أرضُ الله تقفُ على رأس الإبرة. مساحاتٌ تنكمشُ في قرصٍ ديجيتاليّ. قمرٌ يعدُّ عليَّ رموشي وسماءٌ تزخُّ أنبياءَ افتراضيّين.
لا هُنا هناك ولا هناك هنا.

أعودُ إلى كتُبِ التّاريخ؛ موجٌ رتيبٌ يُنجبُ موجًا رتيبًا. أسماكٌ تأكلُ بعضَها. أحلامٌ تطردُ أحلامًا. فأدخلُ في رُفاتِ ظلّي، تحت الصّخرة الأولى، حيث ما تزال الشّمس تبدِّلُ فساتينها وتلقي تحيّتها على هُناك الذي كان هنا، وعلى هُنا الذي كان هناك.

فريد غانم


لإرسال مقالاتكم و مشاركاتكم
يرجى الضغط هنا

ليست هناك تعليقات