مجلة منبر الفكر ... عريب الرنتاوي
مبكراً، تحفظت واشنطن على المبادرة الفرنسية الرامية لعقد “مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط، وأبدت الخارجية الأمريكية ميلاً لمقاطعة المؤتمر، حال أصر الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، ووزير خارجيته في حينه لوران فابيوس على تنظيمه في موعده المقرر مسبقاً ... تغيرت الظروف والأحوال، المؤتمر سينعقد غدا الأحد، والوزير جون كيري سيشارك في أعماله.
في الأصل أن مؤتمر باريس جاء ليملأ فراغاً قاتلاً في المنطقة، أريد له التأكيد مجدداً على مرجعية “حل الدولتين” و”سحب غطاء الشرعية عن الاستيطان”، والتفكير بآلية دولية لرعاية المفاوضات والإشراف عليها، بعد أن سقطت “النظرية الإسرائيلية” القائلة بأن السلام يأتي فقط، كنتيجة لمفاوضات مباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين ... الغريق الفلسطيني وجد في المبادرة الفرنسية “القشة” التي سيتعلق بها ... وإسرائيل شنت أقذر حملات “الشيطنة” و”التشكيك” بالمؤتمر والقائمين عليها والمؤيدين له والمشاركين المحتملين فيه.
قبل مؤتمر باريس، كانت إدارة أوباما المرتحلة قد سجلت نقطة لصالح الفلسطينيين، وربما في سياق تصفية الحساب مع غطرسة نتنياهو وعنجهيته، فامتنعت عن استخدام حق النقض – الفيتو – في مجلس الأمن، ما سمح بتمرير قرار غير مسبوق منذ أزيد من ثلث قرن، يدين الاستيطان وينزع عنه غطاء “الشرعية” ويعيد رسم ملامح “حل الدولتين” وخطوطه العريضة.
وإذ استشاطت تل أبيب غضباً من الموقف الأمريكي في المحفل الدولي الأرفع، فقد جاء المؤتمر الصحفي لجون كيري والتوضيحات الاضافية التي أوردها في سياق شرح موقف إدارة أوباما، لتزيد الطين بلة، فهو رأى أن حكومة نتنياهو وصحبه، هي الأكثر تطرفاً ويمينية في تاريخ إسرائيل، ووضع التصويت على قرار مجلس الأمن في كفة، والمنظومة القيمية والضميرية في كفة ثانية ... كلام استثار أصدقاء إسرائيل وجماعاتها في الكونغرس، الذي يُظهر كل مرة، أنه صهيوني أكثر من الكنيست الإسرائيلي، فكان ما كان من قرارات وردود أفعال.
بذهابه إلى باريس، ومشاركته في مؤتمرها، يكون جون كيري قد أكمل مسلسل “تسوية الحساب” مع نتنياهو وأكثر حكومات إسرائيل يمينية وتطرفاً ... ولعل هذا ما يفسر حالة “السعار” التي يعيشها رئيس الوزراء الغارق في التحقيقات والاستدعاءات حول فساده وبذخه، وكيله الاتهامات يمنة ويسرة، للفلسطينيين والفرنسيين والأمريكيين على حد سواء.
وربما أن كيري ما كان ليذهب إلى هذا الحد في مناكفة حكومة نتنياهو والاستهتار بردود أفعالها، لولا أن إدارته تمر في “ربع الساعة الأخير” من عمرها، بحيث باتت لا تخشى “لوبي” ولا تكترث لـ “كونغرس” ... لكأنها تكرس نفسها في أيامها الأخيرة، لتسجيل مواقف للتاريخ، أو لكأنها بصدد وضع قيود وضوابط، تكبل بها إدارة ترامب الهوجاء، التي لا يعرف أحدٌ أين ستذهب وأين ستستقر أو تنتهي ... من دون انتهاء الانتخابات والتحرر من قيودها ومقتضياتها الثقيلة في واشنطن، ما كان لكيري ولا لأوباما، أن يذهبا إلى هذا الحد من عدم الاكتراث بصراخ نتنياهو وعويله.
في المقابل، رأينا الفرنسي، صاحب المبادرة أصلاً، وفي سنة الانتخابات الفرنسية، الثقيلة أيضاً، وربما لاعتبارات انتخابية كذلك، يعتمد الحيطة والحذر في التعامل مع ردود الأفعال الإسرائيلية، فالمؤتمر يلتئم بغياب الطرفين المعنيين، والمؤتمر لم يعد “دولياً” بمعنى أن يمثل آلية أو سيفضي إلى آلية جديدة للتفاوض، والمؤتمر فوق هذا وذاك، ليس بديلاً عن المفاوضات المباشرة بين الجانبين، على حد قول الرئيس الفرنسي، ودائماً في سياق بث الطمأنينة في نفوس الإسرائيليين وتبديد قلقهم، وحرصاً على “كسب رضا” جماعاتهم ولوبياتهم الوازنة في السياسة الداخلية الفرنسية.
ليست هناك رهانات كبيرة أو عريضة على مؤتمر باريس، والأرجح أن مقرراته الختامية، لن تتخطى منطوق قرار مجلس الأمن رقم 2334 حول الاستيطان ... ومع أفول نجم إدارة أوباما، ستكون لهذه المقررات، قراءة أخرى من قبل الساكن الجديد للبيت الأبيض أو الزعيم الجديد للدبلوماسية الأمريكية ... لكنها نقطة إضافية، تسجل للفلسطينيين، بدعم من فرنسا، في معركة “العلاقات العامة” ضد الاحتلال والاستيطان.
نقطة لصالح الفلسطينيين، ستتآكل قيمتها، إن لم تنجح القيادة الفلسطينية، وعلى ضفتي الانقسام الفلسطيني، من اتباعها بخطوات أخرى على طريق المصالحة والمقاومة وتعزيز الصمود ومطاردة إسرائيل في مختلف المحافل والمنابر السياسية والدبلوماسية والحقوقية والإعلامية العالمية، وبخلاف ذلك، سيتحول مؤتمر باريس إلى أثر بعد عين، شأنه في ذلك شأن، مؤتمرات ومحافل دولية عديدة مشابهة.
ليست هناك تعليقات