مجلة منبر الفكر ... رنا عيسى
كان التأمل في مجريات الطبيعة يقع في مركز الفلسفة من القدم وحتى الثورة العلمية وبزوغ العلم الحديث والدعوة لانفصاله –بحدة- عنها. رغم ذلك ظلت بعض الموضوعات تقبع على الخط الفاصل بين الميدانين –الفلسفة والعلم- تستعصي على الفهم المفصل بواسطة أي منهما وحده. بعد أن كانت الفلسفة تمد العلم بالمواد الخام التي يحتاجها ليشب يافعًا قويًا، جاء دور العلم ليضيء للفلسفة طريقها في محاولة لرد الجميل.
يمثل
«الوعي» نقطة التماس الأشهر من هذه النوعية. كيف يمكن فهمه؟، ميكانيكيًا عن طريق تشريح المخ، أم فلسفيًا بوصفه ظاهرة يتم تعريفها على أساس كونها مصطلحًا للتعبير عن مجموع النشاط العقلي للإنسان؟.
لما كانت المقاربة الفلسفية تموج بمختلف المواقف التي اتخذها المفكرون من مختلف المدارس والخلفيات، ظهر علم الأعصاب محاولاً رتق الانفصام ومحاولة التعمق بالمنظور الطبيعي (naturalist) إلى درجة تتماهى فيها الفكرة الفلسفية مع المادة الطبيعية. من بين رواد هذه الحركة –أي فلسفة علم الأعصاب- سنقوم بالتركيز على أفكار بول وباتريشيا تشيرشلاند.
طاحونة ليبنتز ومسرح ديكارت
ادعت المدرسة الأولى أن للوعي طبيعة اعتبارية، بينما نجد المدرسة الأخرى تتعامل مع الوعي باعتباره كيانًا قائمًا بذاته.
ليس من الصعب توقع أن مدرستين أساسيتين ظلتا تتقاذفان الحكم على ماهية الوعي. ادعت المدرسة الأولى أن للوعي طبيعة اعتبارية. نقول وعيًا ونعني به أفكارنا تجاه أنفسنا ومحيطنا لكننا لا نملك مسحوقًا أو سائلاً يسري في أدمغتنا نسميه وعيًا. تعبر طاحونة ليبنتز عن هذه المدرسة بواسطة مثال توضيحي بسيط. لنفترض أن آلة ما قد قامت بتصغيرك حتى أصبحت في حجم حشرة العث وألقت بك في داخل تلافيف مخ شخص ما، هل سيكون بإمكانك رؤية فكرة تمشي من خلية لأخرى أو موضع تتجمع فيه الأفكار مخزنة على أرفف؟، بالطبع لا. سترى شيئًا يشبه التروس والسقالات التي توجد داخل طاحونة ترتفع وتنخفض بشكل مبرمج.
في المقابل، تجد المدرسة التي تتعامل مع الوعي على أنه كيان قائم بذاته حتى رغم لا ماديته، تمامًا كالروح. سميت هذه المدرسة باسم المادية الديكارتية (Cartesian materialism)؛ لأنها تدافع عن وجود مكان معين -كما لو كان يمكن تعريفه بإحداثيات ديكارتية- يقبع فيه الوعي، وأطلق عليها الفلاسفة الحديثون -دانيا دينيت على سبيل المثال- اسم مسرح ديكارت أثناء هجومهم عليه.
لم يقف الجدل عندما سبق فقط من طبيعة الوعي، بل امتد إلى الخلاف العميق حول كيفية استقصائه ودراسته. هل ينحصر الوعي على الشخص الذي يمتلكه، وأن كل فرد هو الوحيد القادر على التعبير عن وعيه (first-person subjectivity)، أم يتطلب الأمر تدخل طرف خارجي للحكم على هذا الوعي third-person) (objectivity، أم أن هذا الأخير مستحيل حتى وإن لم يصدق الأول باعتبار أن الطرف الثالث يحكم على الوعي بوعيه هو، وبالتالي يستمر الوضع في الانحدار نحو الشخصانية مرة أخرى؟.
بتطور المعرفة وتعاظم إمكانيات العلم، استطاعت البشرية تبين طرق جديدة قد -وقد هنا كلمة محورية -تعد بإجابات ذات طبيعة مُرضية حتى وإن لم نصل إليها بعد. كان علم الأعصاب هو أهم صناع هذه الاآمال العريضة وما زال أقربها للنجاح كما يبدو وكما يخبرنا اآل تشيرشلاند في تفلسفهم العلمي.
الفطرة تحت الهجوم
سار تشيرشلاند على نهج فايرباند من قبله من حيث النظر بعين الشك والريبة من فكرة «الفطرة commonsense» التي اعتاد الفلاسفة والعلماء على حد سواء التعامل معها على أنها بديهية، ومكون أساسي من طريقة تفكير الإنسان. سميت فلسفة فايرباند باسم المادية الإقصائية (eliminative materialism)؛ بسبب إقصائها للتفكير الفطري من خضم أدوات التفكير السليم أو الإشارات السليمة نحو الواقع. يستشهد تشيرشلاند بالعديد من الأمثلة التي برهنت على خطأ فكرة صدق التفكير العام العادي الفطري، ولكن يظل أكثرها وضوحًا وإثباتا لنقطته خطأ الاعتقاد بتسطح الأرض وثباتها رغم أن هذا هو بالفعل ما يظهر لنا منها بالشكل المباشر.
اعتقد العلماء قديمًا أن الحياة سببها قوة حيوية امتلكتها المادة بطريقة ما، ولم يكونوا يتخيلون أنها قد تكون مفهومة علميًا بعد الإحاطة بوجود الحمض النووي.
من رفض تشيرشلاند لعلم نفس العامة (folk psychology) بدأت مسيرته الذهنية نحو نقد بعض أفكاره بشكل خاص، كانت أهمها فكرة عدم إمكانية معرفة الوعي.
لا يعني علم نفس العامة أنه مقصور على العامة فقط دون الدارسين، بل يشمل حتى المتخصصين لأنهم بشر تواجدوا مع بشر آخرين وتأثروا بهم رغم كل شيء، ومن هذا التأثر نشأت فكرة في أوساط المفكرين، تنص الفكرة المشار إليها على أن الوعي كيان ما-بعد-مادي أو ميتافيزيقي لا يمكن معرفته عمليًا أبدًا.
رغم «احتمالية» صدق الادعاء، إلا أنه سيكون صدقًا ناتجًا عن صدفة وليس منهجًا، ومن هنا فإن تشيرشلاند يحاجج بأن أسلوب الفطرة ذاك سيثبت خطأه بصورة لا تجعل من الممكن تبسيطه أو تعميمه حتى، بل ستتم كتابة شهادة وفاته نهائيًا بعدما يتضح ضلاله الشديد. يستشهد تشيرشلاند بزمن كانت الحياة فيه عبارة عن قوة حيوية (vital force)، وكان يعتقد حتى أكبر علماء هذا العصر بأن الحياة هي مادة امتلكت هذه «القوة» بطريقة ما. لم يكن هؤلاء يتخيلون أن الحياة قد تكون مفهومة إذا ما أحطنا علمًا بالحمض النووي وأن «القوة الحيوية» هي مجرد ترجمة لهذا الحمض النووي. بالطبع لا يمكن الجزم بأننا أمام حلقتين متشابهتين في تاريخ العلم، ولكن هل يمكن الجزم بعدم تشابههما في ظل إشارات توحي بقوة نحو هذا التشابه؟.
هذه الإشارات هي المعلومات التي يوفرها علم الأعصاب حاليًا بشكل مطرد حتى وإن لم يعط الحل النهائي للمشكلة بعد.
موقف علم الأعصاب من الوعي
إذا تمكنا من دخول المخ لن نستطيع إلا أن نشهد خلايا عصبية تمر من خلالها إشارات كهروكيميائية، ولن نرى فكرة تسير بذاتها داخله.
في الأساس، لن يكون بمقدور علم الاعصاب التخلي عن نسخة مطورة من النظرية الميكانيكية التي تحدّث عنها ليبنتز، إلا أنه تطور قادر على قلب الصورة رأسًا على عقب. نحن نتحدث عن أننا إذا تمكنا من الدخول داخل المخ فإننا لن نستطيع إلا أن نشهد خلايا عصبية تمر من خلالها إشارات كهروكيميائية هنا وهناك، وتعود بالاستجابات المناسبة لمختلف الأعضاء، وبالتالي لن نرى فكرة تسير بذاتها داخل المخ. هنا يمسك تشيرشلاند بتلابيب المشكلة متسائلاً: كيف يمكننا رؤية الفكرة ونحن لا نعلم كيف تبدو تلك «الفكرة»؟؛ بمعنى: هل نحن واثقون أنه إذا مرت أمامنا فكرة فإننا سنتمكن من التعرف عليها والإشارة إليها باسمها؟. إذا كانت الحياة هي مرادف للولب من القواعد النيتروجينية، فلمَ لا تكون الفكرة مرادفًا لشيء ما في المخ نحن نعتقد بعدم وجوده لأننا فقد لا نعلمه بعد؟.
في كتابه محرك المنطق، يعدد تشيرشلاند بضع سمات يمكن استخدامها كخريطة لتوصيف الوعي. يقوم الفيلسوف العلمي بعد ذلك بمحاولة رشيقة لتفكيك هذه السمات إلى مكونات «مخية» وليست «عقلية»؛ أي مكونات مادية يمكن استقاؤها من تشريح وميكانيكية عمل المخ ثم العودة مرة أخرى ومحاولة تعقيد هذه المكونات وربطها في شبكات واختبار ما إذا كانت قادرة على تكوين الوعي مرة أخرى أم لا.
قد لا يتسع المجال هنا لإدراج كل ما استقاه تشيرشلاند من علم الأعصاب في مسيرته نحو التفكيك وإعادة التركيب –وهنا نحيل القارئ المهتم لكتب تشيرشلاند ذاتها ذات الأسلوب البسيط والثري- إلا أن مثالاً على طريقته كفيل بإشعاع ضوء على طريقة تفكيره بشكل عام.
مبدئيًا، يصف تشيرشلاند الوعي بواسطة علم الأعصاب بأنه:
- يضم ذاكرة قصيرة المدى.
- لا يعتمد على الحواس؛ أي أنك إذا أغمضت عينيك وسددت أذنيك وأغلقت فمك فإنك لن تفقد الوعي.
- بالإمكان توجيه الانتباه الواعي حسب الأهمية؛ أي أنك تستطيع توجيه انتباهك لأمور وتجاهل أمور أخرى في محيطك.
- إمكانية تفسير البيانات التي تصلك بأكثر من طريقة إذا كانت غامضة.
- يتوقف الوعي في النوم العميق ولكنه يتواجد في الأحلام بصور مختلفة.
- وأخيرًا فإن الوعي يستخدم معلومات حواسية مختلفة لتكوين واقع متكامل وتجربة موحدة غير متنافرة.
كانت تلك هي النقاط السبع التي ميز بها تشيرشلاند الوعي بالرجوع لعلم الأعصاب. من هذا الأخير استقى تشيرشلاند المعلومة التي ساعدته على إيجاد الذاكرة قصيرة المدى وسط التشويش الحادث في المخ. كان ذلك في منطقة مميزة في المخ تسمى النواة بين الطبقية intralaminar nucleus.
في منطقة المهاد من المخ تخرج الخلايا العصبية لتصل بينها وبين مختلف أجزاء القشرة الدماغية مكونة الأنوية المذكورة والتي تكون ما يطلق عليه الشبكات التكرارية (recurrent networks). المعلومة الحرجة هنا هي أن هذه الأعصاب هي أعصاب ارتجاعية (descending) وهذا ما يمكّنها من صنع الذاكرة قصيرة المدى.
يشرح تشيرشلاند الفكرة بواسطة أنبوب: كلما استغرقت معلومة ما وقتها أطول للسير عبر الأنبوب فإنها تكون أقدم في تواجدها من المعلومة التي دخلت الأنبوب للتو، وكلما تواجدت المعلومة على مسافة أبعد داخل الأنبوب كلما عنى ذلك أنها أقدم أيضًا؛ بهذا تتواجد معلومات قديمة في أنبوب صالح للاستخدام الحالي من قبَل منطقة المهاد والقشرة الدماغية، وبهذا يصبح المخ قادرًا على صنع ما نسميه نحن بالذاكرة القصيرة وما يسميه هو بشبكة خلايا عصبية.
قد تبدو الفكرة بسيطة، ولكن قبل اكتشاف وجود الخلايا العصبية وطريقة عملها ربما كان من الأسهل الاعتقاد بأن عمل المخ هو أمر لا يمكن أن تصل إليه المادة أو المعرفة وأنه «روحاني» بشكل ما. قد تحمل توجهات تشيرشلاند الكثير والكثير مما يمكن نقده أو تطويعه أو استبداله، إلا أن وجهة النظر التي يمثلها لا تخلو من وجاهة تجعل الشك في الفكرة العامة بأن الوعي أمر يقع وراء حجاب أزلي، شكًا منطقيًا مبررًا.
ليست هناك تعليقات