ظهر قبل نهاية القرن العشرين كتابان يبرهنان ليس فقط على التفاعلات الموجودة في المجتمعات في ذلك الوقت وإنما على ما يحدث الآن على أرض هذا الكوكب: الأول «نهاية التاريخ» لفرانسيس فوكوياما، والثاني «صراع الحضارات» لصمويل هنتنغتون.
وعلى رغم تعارض مضمونهما الظاهر، إلا أنهما لمسا جزءاً من التفاعلات المستقبلية التي ترجمت بعد ذلك في شكل العولمة بمظاهرها المختلفة.
تنبأ الأول بتسيد منظور واحد للمجتمعات متمثلاً في الرأسمالية الغربية في شكلها الاقتصادي، والديموقراطية في شكلها السياسي والانتصار لهما على بقية المنظورات. أما الثاني فذهب إلى أن ما هو قادم من الأيام من تفاعلات سينبني على صدام بين ثقافات وحضارات مختلفة. وبعد ما يقرب من ربع قرن على صدور هذين العملين والضجة الكبيرة التي تابعتهما في الأوساط الأكاديمية والإعلامية، نجد أن ملامح تنبؤاتهما ظهرت في شكل واضح على السطح. فكتاب فوكوياما الذي انتصر للرأسمالية الغربية، تحققت فكرته في جانب كبير بأن عمت مظاهر العولمة المجتمعات، كأحد منتجات هذه الرأسمالية الغربية، بقيمها وثقافتها وتكنولوجياتها التي جمعت البشر في أنماط موحدة من العمل والاستهلاك، وتطبيقاتها التي طاولت كل شيء، من المكان للملبس وطريقة الاستمتاع بالحياة. أصبح البشر في تفاعلاتهم وأحاديثهم اليومية متشابهين رغم بعد المسافات، وهو ما حاول أن يتنبأ به فوكوياما.
فهل الواقع كذلك، أم أن الذي يظهر لا يعكس غير وجه واحد من الصورة؟ الإجابة قد نجدها في ما ذهب إليه هنتنغتون من أن العالم بنموذجه الحضاري الغربي سيدخل في صراع مع غيره من ثقافات، مستنداً إلى الأحداث والوقائع التاريخية التي كانت في معظمهما مبنية على هذه المتغيرات المتعلقة بالصراع بين الهويات والثقافات، ومن ثم يصعب أن تنتهي فجأة لتحل محلها ثقافة واحدة متسيدة، تشهد معها نهاية التاريخ، وفق توقعات فوكوياما. وإذا كانت الوقائع والتفاعلات قبل ثلاثة عقود لم تكن بالوضوح الذي هي عليه الآن، فإن المؤلفين كانا يقرآن الواقع والمستقبل جيداً بظهور العولمة بكل تناقضاتها والخلخلات التي هزت بها المجتمعات كافة. فبقدر ما ظهر التقارب والتشابك بين البشر ظهر الاختلاف والصراع على الهويات، وبقدر ما ظهرت الرفاهية بقدر ما ظهر الفقر والجوع. وبالدرجة التي ارتقى فيها الإنسان بقيمه وأخلاقه، عادت الوحشية متمثلة في الإرهاب وغيره من حروب على الهوية.
هذا التناقض طال المجتمع الواحد، فحدث تحول لمجتمعات كانت تعتبـــر نفسها واجهة لثقافة واحدة، وظـــهر فيها صراع الهويات المضادة. وإذا كان هنتنغتون تنبأ بالصراع بيــن الإسلام والغرب، فإن ما نشهده الآن تجاوز ذلك بأن أصبح الصراع متعـــدد المستويات بانتقاله من الشكل المعتاد بين دولة أو قومية وأخرى ليصبح داخل حدود الوطن الواحد.
والأمثلة هنا كثيرة تدلل عليها الصراعات المضادة في أشكالها لأفكار العولمة، أبرزها ظاهرة اليمين المحافظ والشعبوية التي أصبحت واقعاً الآن في المجتمعات الغربية والتي تجلت قمة تأثيراتها بتصويت غالبية البريطانيين لخروج بلدهم من الاتحاد الأوروبي التي هي نفسها انعكاس للعولمة في شكلها السياسي والاقتصادي.
وكانت المفاجأة الأكبر فوز دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية الأميركية بدعواته لطرد الأجانب من أميركا التي كانت قبلة للمهاجرين لينصهروا في ثقافتها في شكل مهَّد البدايات الأولى لظهور نواة العولمة بهضم هذه التنويعات الثقافية مع المهاجرين في ثقافة أميركية واحدة. نجد عكس ذلك يحدث الآن من وجود نسبة كبيرة من الأميركيين يعتقدون في الأفكار الانعزالية نفسها من مجتمع كان رائداً في إنتاج وتصدير كل مظاهر العولمة من التكنولوجيا والأزياء حتى الأطعمة. والحال عندنا لم يختلف عما يحدث في الغرب بل أصبح أسوأ، لأننا لم ندخل العولمة من بابها الطبيعي واكتفينا بالتمسك بمظاهرها، فأصبـــحنا منكشفين لاستغراقنا في سبـــات لفترة طويلة، وعدم درايتنا بما يحدث من حولنا وعجزنا عن التنبؤ بما تأتي به العواصف من مصائب.
اكتفينا بدخولنا عصر العولمة بأن وصلنا إلى قمتها في استهلاك أحدث منتجاتها. فوجئنا بالأرض تتحرك من تحت أقدامنا، وبتنا على وشك السقوط في هوة عميقة ملامحها تتوزع بين الفقر والتخلف والإرهاب وما ينتج من ذلك من حروب واقتتال ولاجئين وغيرها. أصبحنا طرفاً في الصراعات الدولية سواء بمشكلاتنا التي يتصارع الجميع لا على حلها وإنما على الاغتنام منها، أو بما جلبه علينا الإرهاب من وصمة أدخلتنا غصباً في صراع مع هويات أخرى تجمعها العولمة في قيم ومصالح مشتركة.
ليست هناك تعليقات