مقدمة:
يتعايش الإنسان باعتباره مخلوقاً اجتماعياً مع بني جنسه من مختلف الأجناس والأيديولوجيات، وهو الأمر الّذي يتطلّب منه التّمتع بقدرٍ من التفهّم والانسجام معهم حتّى ينعم بواقع يسوده الأمن والاستقرار والسّلم،
هذا الأخير – السّلم- أضحى مطلباً ملحّاً مع الطّبيعة أيضاً الّتي ما فتأت تتهدّدها تدخّلات الإنسان المتزايدة بسبب رغبته في السّيادة وبسط السّيطرة عليها بشكلٍ أداتي غير عقلانيّ، وهو ما جعل دقّ ناقوس الخطر في تعاملنا مع البيئة أمراً ضرورياً مستعجلاً.
إنّه الإطار العامّ الّذي سيصبّ فيه مضمون هذه الورقة البحثيّة الّتي نستهدف من ورائها بعث اليقظة في الوعي البشري وإيقاظ الضّمير الخلقي بسبب الصّدمة الّتي يهتزّ على وقعها الإنسان المعاصر بمقتضى عديد التحوّلات الّتي مسّت شتّى مجالات حياته نتيجة التّطور التّكنولوجي المذهل وهو الوضع الكارثي الّذي نبّه إليه سلفاً ومنذ خمسينيات القرن الماضي الفيزيائي الألماني
ورنر هيزنبرغ Werner Karl Heisenberg"1976-1901" وذلك ضمن كتابه الموسوم:
الطبيعة في الفيزياء المعاصرة.
نحن نعيش على الكوكب نفسه بمخلُوقاته واضطراباته الإيكولوجيّة الّتي تزداد حدّة يوماً بعد يومٍ، بخاصّةٍ وأنّ الإنسان انتقل من مُستوى استغلال الطّبيعة إلى مُستوى العبَث بها والسّيطرة عليها وكذلك تحويرها وتشويهها بواسطة التّقنية، وهو الوضع الّذي يضطرّنا إلى اتّخاذ موقفٍ قيميّ إلحاحيّ نظراً للتّهديد الّذي تتعرّض له الحياة على وجه الأرض. في هذا الإطار سنُحاول إثارة جملةٍ من التّساؤلات من قبيل:
- - إلى أيّ مدى حرّرتنا الاختراعات التّقنية؟ وهل يجُوز أخلاقياً السّيطرة على ما هو غير بشريّ؟
- - هل بوسع إلزاماتنا الخلقيّة أن تتجاوز بني البشر لتشمل الطّبيعة بما تحويه من كائناتٍ حيّةٍ حيواناً كانت أو نباتاً؟
- -هل من مستقبلٍ يُذكر بقي للإنسانيّة في ظلّ وضعٍ تعبث به التّطورات التّكنولوجية الكارثيّة الّتي يعرفها الواقع الرّاهن، وما هي المخاطر الّتي تحفّ وجود الإنسان وتهدّد بقاءه؟
- -إذا كان السّلم (Paix) مطلباً من دُونه لا تستقيم الحياة الاجتماعيّة فإنّ السّلم مَع الطّبيعة لا يقلّ أهمّية عنهُ بل ويُضاهيه، والمعنى كيف يتسنّى لنا عقلنة استراتيجيّة العقل في التّعامل مع المُحيط الطّبيعي الّذي يحْوينا ويأْوينا في آنٍ معاً؟
هي أسئلةٌ وتساؤلاتٌ كثيرةٌ تفرض طرحها بسبب المعاناة المتزايدة للإنسان المعاصر الّذي يسكنه هاجس التفوّق المادّي التّكنولوجي، والّذي بمقتضاه أضحى بلغة الألماني المعاصر
هانس يوناس Hans Jonas "1903-1993" يعيش تحت شبح الوعيد(
menace) ليقع بذلك في فخّ ما صنعت يداه.
عرض:
إنّ تزايد القلق على سلامة كوكب الأرض بشكلٍ كبيرٍ منذ منتصف القرن العشرين بسبب تزايد النّشاط البشريّ المخلّ بالتّوازن البيئي الطّبيعي، جعل الدعوة إلى الاهتمام بالبيئة ليست حكراً على المتخصّصين فحسب إنّما شملت عديد الميادين من علماء الطّبيعة والبيئة، إلى البيولوجيين والسّياسيين ورجال الاقتصاد والأخلاق وكذلك الفلاسفة، هذه الفئة الأخيرة الّتي راحت تنادي بضرورة وضع
إتيقا جديدة أو أخلاق المسؤوليّة كما سمّاها
يوناس، بما أنّ الخطر إنّما يشمل الإنسانيّة جمعاء، وذلك من خلال كتابيه:
من أجل أخلاق للمستقبل (Pour une éthique du futur) و
مبدأ المسؤوليّة، إيتيقا للحضارة التّكنولوجية (Le Principe Responsabilité : une éthique pour la civilisation technologique) الّذي صدر له في
1979،
والّذي ينطلقُ فيه من سؤالٍ مركزيّ هو:
كيف السّبيل إلى إقامة إتيقا أصيلةٍ تتناسب وحجم التقنية فالكارثة الّتي يعرفُها العصر؟
وهو السّياق ذاته الّذي يندرج فيه النّقد الّذي قدّمه فلاسفة مدرسة
فرانكفورت الألمانية من أمثال
هربرت ماركوز H. Marcuse"1898-1979" في كتابه:
الإنسان ذو البعد الواحد، كما هناك عديد المحاولات الّتي تناولت الموضوع كمحاولة فيلسوف البيئة الأمريكيّ المعاصر
سكوليموفسكي Skollimowski (م 1930) وما يسمّيه بالعقل الإيكولوجيّ، و
إيمانويل ليفيناس Levinas"1906-1995" والفرنسيان المعاصران
بول ريكور P. Ricoeur"1913-2005" و
ميشال سيرMichel Serres(م1930) وغيرهم.
1-ضبط مفاهيمي:
-مفهوم الإيكولوجيا /الإيتيقا/ الأخلاق:
تنبغي الإشارة في مستهلّ هذه الورقة إلى أنّ البيئة هي الوسط الّذي يعيش فيه الإنسان، ولعلّ
مؤتمر الأمم المتّحدة الّذي انعقد في ستوكهولم عام 1972 قدّم لنا تعريفاً موجزاً ولكنّه جامع لها باعتبارها
" كلّ شيء يحيط بالإنسان " ، أو هي
" دراسة العلاقات الّتي تقُوم بين الكائنات العضويّة أو العضويّات (organismes) وبين المحيط الّذي تعيش فيه ومُختلف ما تسبّبه له من تغييرٍ وتعديلٍ " ،
والمعنى أنّ كلّ ما يحويه كوكبنا من أحياء من شأن التدخّل العشوائي وغير المحسوب أن يحدث فيه كوارث غير محمودة العواقب، وهو الأمر الّذي يجعل من قضية حماية البيئة مسألةً أخلاقيّةً وكونيةً في الوقت ذاته.
في هذا السّياق نلفت الانتباه إلى نقطةٍ مهمّةٍ وهي أنّ الإيكولوجيا ليست إيديولوجيا، حيث لا ترتبط بنظامٍ سياسيّ أو اجتماعيّ أو اقتصاديّ معيّن، إنّما هي مفهومٌ شاملٌ (
global) يهتمّ بمستقبل الكرة الأرضيّة برمّتها دُون استثناء، ولا علاقة له بقوميةٍ أو جنسٍ. إنّها تسعى إلى نشر الوعي البيئي من أجل إيجاد صيغٍ قانونيّةٍ ملزمةٍ على مستوى العالم للحدّ من التّدهور الحاصل، وبذلك تكُون المسألة الايكولوجية مشكلةً دوليّةً معاصرةً نظراً لشموليّة الخطر.
والإيكولوجيا لفظة مركّبة من كلمتين يونانيتين هما:
-
oikos وتعني بيت أو منزل
« maison ,habitat »
- و
logos وتعني علم أو دراسة
«science ,étude»،
وقد وضعها البيولوجي الألماني
إرنست هايكل Haeckel Ernest عام
1866، وذلك في كتابه:
المورفولوجيا العامّة للعضويات « Morphologie générale des organismes » ،
وهي–كما تقدّم – علم يدرس الأوساط الّتي تعيش فيها المخلوقات الحيّة وتتكاثر وتتفاعل مع بعضها البعض، ومن جهةٍ ثانيةٍ تدرس العلاقات القائمة بين هذه العضويات ووسطها .
وفي هذا السّياق نشير إلى نضال الجماعات الإيكولوجية في سيبل إقامة مجتمعٍ يتمتّع أفراده باحترامٍ أكبر للطّبيعة لتكون العلاقة أكثر انسجاماً، وذلك منذ سبعينيات القرن الماضي بخاصّةٍ في أوروبا، والّتي كثيراً ما كانت تتحالف مع حركاتٍ سياسية تعمل على إرساء إيديولوجيا تحمل نظرةً جديدةً للعالم في المجتمع المعاصر. لقد أصبحت الإيكولوجيا موضوع دراسة العديد من التخصّصات، فمن
إيكولوجيا النّبات والحيوان صرنا نتحدّث عن الإيكولوجيا البشريّة (
إيكولوجيا العمران، الإيكولوجيا الاجتماعيّة، بيئة العمل...)،
وهذا لأنّ الإنسان كغيره من المخلوقات يخضع لقوانين التّفاعل مع بيئته ، وهي بذلك -أي الإيكولوجيا- تريد أن تجعل من الطبيعة الفيزيقية أو المادّية موضوعاً للمسؤولية الأخلاقيّة والسّياسية.
أمّا عن
الأخلاق (morale) و
الإيتيقا (éthique)، فهما من النّاحية الاشتقاقيّة مترادفان،
الأوّل يشير إلى القيم والقواعد والضّوابط العامّة الأبديّة الّتي تتعلّق بالخير والشّر والّتي تحكم السّلوك البشري في عمومه وتوجّهه، أي أنّها تفكير في السّلوكيات الّتي ينبغي اعتناقها في المجتمع الإنساني فتحدّد ما يجب فعله وما يجب تجنّبه أي المرغوب فيه والمرغوب عنه وبهذه الدّلالة تخلق الأخلاق إلزاماتٍ، بينما تعني
الإتيقا نظرية الفعل الّتي يجب على الإنسان اتّباعها حتّى يحسن توجيه حياته وبلوغ أهدافه، فهي علم الأخلاق والآداب، وهي مبحثٌ فلسفيّ يختصّ بالتّفكير في النّهايات وقيم الوجود وشروط تحقيق حياةٍ سعيدةٍ، ولأنّ السّعادة موضوعٌ رئيسٌ للتّفكير
الإيتيقي فقد كان أساس كلّ فيلسوفٍ يقوم على أرضيةٍ مختلفةٍ، وهي تعني في أصلها الإغريقي
التّناول النّظري المتعلّق بالمبادئ الّتي تقُود العمل الإنسانيّ في المجالات الّتي يمكن للإنسان أن يختار فيها داخل مجموعةٍ بشريةٍ معينة، وفي هذا السّياق ارتبطت الأخلاق بالمسؤولية والكرامة اللّتان هما اليوم حسب
يوناس في خطرٍ، وهو ما جعل فلسفته تنتقل من
أنطولوجيا الوجود/الموجود إلى
إيتيقا السّلوك(éthique du comportement).
2-مواقف فلسفية (نماذج):
لابدّ أن نعترف بكوننا نعيش في ظلّ واقع أزمةٍ بيئيّةٍ حقيقيّةٍ، وهو ما لا تنتبه ولا تنشغل به المُجتمعات النّامية لسببٍ بسيطٍ هو كونُها لا تزال في طور استهلاك التّكنولوجيا في مُختلف صُورها وأشكالها، حيث اكتسحتها هذه النّزعة المُفرطة بشكلٍ متطرّفٍ، فمن استغلال الطّبيعة ثم السّيطرة عليها، تحوّلت من موقع الانسجام معها إلى موقع النّاهب والمفتكّ لخيراتها،
وهو الوضع الّذي سمح بشكلٍ ضمنيّ من تحويل السّيطرة نحو الإنسان أي إلى بني البشر، وراحت قيمه الإنسانيّة والأخلاقيّة في خضمّ ذلك تتغيّر بشكلٍ تدريجيّ لتترك المكَان لقيمٍ جديدةٍ بديلةٍ، والسّبب في رأينا إنّما يعُود إلى غياب المسألة الأخلاقيّة عن المشرُوع العقلانيّ الّذي راح يعيش ويتعامل ويفكّر في إطار
المُقاربة الأداتيّة (l’approche instrumentaliste) الّتي تُعامل الآخر غير البشريّ - الطّبيعة - كملكيّة.
في هذا الإطار إذن يندرج نقد الفلسفة الاجتماعيّة بمقاربتها الأخلاقيـّة والّتي تتميّز بأفق التّقدم والانعتاق
(émancipation) معتبرةً نفسها منحازةً للمظلومين، وذلك من قبيل ما وجّهه ماركوز للمجتمع الصّناعي، حيث لم يعُد العلم محصُوراً في المُختبرات الخاصّة إنّما راح ينحُو بشكلٍ تدريجيّ وعن طريق تطبيقاته الملحّة والشّاملة إلى أن يُهيمن على عالَم البشر في جميع مستوياته ليُوهمهم أنّه العالم الحقيقيّ والوحيد بعد أن هيمن على الطّبيعة، وذلك من خلال مفاهيم الإنتاج واللّذة والاستهُلاك والمنفعة، لتتمّبذلك السّيطرة العقلية في البداية على الطّبيعة ثم على المجتمع.
لقد كان على الإنسان أن يفهم عالَمه ويسيطر عليه حتّى يتمكّن من البقاء فيه، ولكنّه بعد ذلك أصبح ضحيّة هذا الفهم والسّيطرة، فالهيمنة أضحت صارمةٌ وكلّية بحيث لم يعد التقدّم الحاصل فيه يتناسب مع مواهبه وقُدراته وحاجاته الّتي لا تتطوّر بشكلٍ حرّ نظراً للاجتياح الّذي حقّقته التّقنية في حياته، ومن هذا المُنطلق عرّضته إلى نوعٍ من القمع المُستمر وأفرزت له قيماً مسيطرةً جديدةً راح يتبنّاها من دُون وعيٍ منه حتّى صار السّلم ذاته مهدّداً،
وأصبحت البشريّة كما يقُول
ماركوز مهدّدةً بالإبادة بفعل كارثةٍ ذرّيةٍ نجهد أنفسنا لاتّقائها ولكنّنا نهمل دراسة أسبابها الكامنة في المجتمع الصّناعي ، وقد انجرّ عن ذلك ظاهرة التّهديد المتبادل الّذي عرف بين المعسكرين الشرقي والغربيّ آنذاك، كما تجلّى في ظاهرة إنتاج أسلحة الدّمار الشّامل من خلال السّباق نحو التسلّح والّذي راحت تعاني منها البشريّة جمعاء، بحيث لن تتحقق السّيادة في حال اندلاع حربٍ كونيّة ثالثةٍ إلاّ على بقايا آثارٍ بشريّةٍ وحُطامٍ كما يقول الفرنسي
ريمون آرون R .Aron"1905-1983" في الوقت الّذي كان يُفترضُ فيه أن تحرّر هذه الحضارة الإنسان بعد أن أحرز انتصاره على الطّبيعة .
لقد أصبح المجتمع قائماً على جهاز الإنتاج الّذي يتّجهُ في جوهره إلى السّوق، معتمداً أساليب الإقناع والإيحاء والاستدراج والتّمويه فهو من يحدّد الحاجات الفرديّة والنّشاطات والمواقف والقابليّات الّتي تستلزمُها الحياة الاجتماعيّة في آنٍ معاً ، هذه الحاجات تتجدّد باستمرارٍ ويندمج الإنسان بفعلها في النّظام الاجتماعيّ الّذي يفرضُ وصايته عليه من خلال أفضل وسيلةٍ في حوزته وهي الدّعاية الإعلاميّة.
بهذا الأسلُوب يَضيع الفرد في المُجتمع الصّناعي الّذي يَحدّ من تطلّعاته ويمْلي عليه مواقفه وكأنّه يعمل على ترويضه من خلال الحاجات والأهداف الّتي يغرسها فيه، وعلى ذلك فإن السّعادة الّتي يقدّمها له هي سعادةٌ وهميّةٌ توحي بها الدّعاية من خلال تحقيق
"رفاهٍ في الشّقاء والعبوديّة" ،بما أنّ حرّية المرء أصبحت تُختصر في القدرة على "الاختيار بين تشكيلةٍ من البضائع والخدمات" ، بل إنّ الاختيار نفسه خاضعٌ للرّقابة الاجتماعيّة القائمة على عنصر التّمويه، الوضع الّذي جعل النّاس يتعرّفون على أنفسهم من خلال بضائعهم ويجدُون جوهر رُوحهم فيما يمتلكُونه من آلاتٍ وأدواتٍ أنيقةٍ من آخر ما ابتكرته التّكنولوجيا، والنّتيجة مُعاناتهم من
ظاهرة الاستلاب (Aliénation) و
التشيّؤ (Réification).
لقد أنتج النّظام المفرز وعياً زائفاً عمل على جعل المنتجات هي ما يُكيّف مذاهب النّاس وأفكارهم.
إنّ كفاح المرْء ضدّ الطّبيعة جعله يعمل على تدميرها بسُرعةٍ مذهلةٍ من خلال الإنتاجيّة المُفرطة الّتي تقُوم على الاضطهاد والقمع، مُهدّداً في الآن نفسه حياته واستقراره النّفسي والسّلمي، فالتّغيير الّذي يحقّقه التقدّم هو تغييرٌ داخل نظامٍ معيّنٍ لا يُمكن الخرُوج عنه بسبب الرّقابة المفرُوضة من جهةٍ، وبسبب تكيّف النّاس مع الوضع القائم من جهةٍ أخرى، بحيث تمّت السّيطرة الفعّالة على الطّبيعة وعلى الإنسان حقاً، ومن هذا المنطلق يندرج موقف ماركوز في إطار النّقد الفلسفيّ الاجتماعيّ للتّقنية.
إنّه الوضع الّذي جعل من السّباق نحو التّسلح واقعاً ملمُوساً صارخاً حوّل العلماء إلى مُجرّد أدواتٍ ومستَخدَمين أي أُجَراء في ظلّ نظامٍ صناعيّ، وهو ما ذهب إليه
برتراند راسل Russell "1870-1972" مشيراً إلى أنّه
إذا حيل دون وضع حدٌّ للحرب الذرّية فمن المُحتمل أن يفنى النّوع البشريّ بأكمله ، علماً أنّ القنبلة الذريّة لم تعد تشكّل الخطر الوحيد بل هُناك ما هو أشّد ً دماراً وفتكاً وهي القنبلة الهيدروجينيّة والأسلحة البكتيريولوجيّة
- هذا الكلام كتبه أثناء الحرب العالميّة الثّانية –
بالإضافة إلى ما تقدّم، هناك تهديداً آخر يتربّص ببني البشر ويتجاوز قواهم بكثيرٍ، وهو
تهديد الطّبيعة (menace de la nature) -
موضوع هذه الورقة - بما تحتويه من ظواهر من جهةٍ، وبما يلحقه بها الإنسان من أضرارٍ من جهةٍ أخرى.
وهو السّياق الّذي تندرج فيه أطرُوحة المؤرّخ وفيلسوف العلم الفرنسيّ المعاصر
ميشال سير Michel Serres، الّتي تتّضح في كتابيه:
العقد الطّبيعي le contrat naturel"1987"
و
الشّر المحض، التّلويث من أجل الامتلاك "?le mal propre polluter pour s’approprier"،
حيث يؤكّد على إلحاحية المطلب الإيكولوجيّ ويصرّح فيه
بأنّ الإنسان لا يملك حقوقاً مطلقةً على الطّبيعة، وإن انتقل من موقع المغلوب على أمره فيها منذ ديكارت (1596-1650) إلى موقع السّيطرة والتحكّم فيها، فإنّه اليوم بسبب التّغيرات المناخيّة والتّكاثر غير المفسّر للزّلازل والكوارث الطّبيعية الأخرى، وما تسبّب فيه من عنفٍ موضوعيّ شاملٍ (violence objective globale) جعل من الأرض ضحيّة ، عليه أن يعيد مراجعة العلاقة مع هذه الطّبيعة الّتي بالغ في اعتبارها مجرّد أداةٍ، وبعد أن أحكمنا سيطرتنا عليها وغزونا لها علينا أن نُحكم سيطرتنا على هذا الغزو ذاته أي أن نتحكّم في تحكّمنا ذاته،
وهو الرّهان الأساسيّ الّذي يضعه الفيلسوف. إنّه التّفرع
(la bifurcation de l’histoire) أو التشعّب التّاريخي، فإمّا الموت وإمّا التّعايش والتّكافل
(symbiose)، وهو استنتاجٌ فلسفيّ لا حياة فيه أي لا معنى له إذا لم يندرج في إطارٍ قانونيّ، وهي ثقافة معروفة عند البحّارة والمزارعين .
إنّ تحليلات
ميشال سير تنطلق من ضرورة التّأسيس لمفهوم هدنةٍ تنشأ إبّان هذه الحرب الموضوعيّة على الطبيعة، وعلى حقّ التّكافل أي المسئولية الّتي تقوم على حقّ الضّيف
(l’hôte) وليس الطّفيلي
(le parasite)-
الّذي هو وضعنا الحالي- والّذي يستند على مفهوم الإفراط في الاستغلال والنّهب، حيث يفترض في الإنسان أن يمنح الطبيعة بالقدر الّذي تعطيه .
وقضية العقد الاجتماعيّ أضحت اليوم ترتبط بالعلم، فهناك نوع من الاتّفاق المعرفيّ إلا أنّه لا يقيم السّلم مع العالم، فالعلم باعتبار موقعه اليوم
كحدث(fait) و
قانون(droit) يضع العلماء في موقع الرّقيب أو موقع من يتسبّب في إحداث العنف في العالم، بخاصّةٍ وأن العالَم العالميّ كما يقول الفيلسوف يقدّم اليوم صورة وجهٍ مؤلمٍ لجمالٍ مشوّهٍ وأبتر
(mutilé).
إن الجمال يتطلب السّلم، والسّلم يفترض عقداً جديداً، ومنه علينا أن نقرّ السّلم بيننا لنحمي العالَم والسّلم مع العالم لنحمي أنفسنا . لقد فقدنا العالم بأن حوّلنا الأشياء إلى أصنام وبضائع .إنّ الخطر قائم لا محالة والسّؤال كما يقول
سير هو:
ماذا نفعل؟ متى وكيف؟ وماذا نقرّر؟
والمعنى أنّه لابدّ لنا من احترام الطّبيعة، فنحن عبْر القرون عملنا على سبر أغوار مشكلة العقد الاجتماعيّ الّتي تتضمّن مفهوم التّبادل – تبادل الحقوق - والعلاقات بيننا ولكنّنا لم نسبر أغوار العلاقة مع الطّبيعة والعالم، الأمر الّذي جعل العلاقة الحالية معها علاقةً غير متوازنةٍ، لأنّها علاقة طفيليّة أو تطفّلية، والمطلُوب منّا هو تغيير وعينا بالعالم.
ومنه، فإنّه بمقتضى وقوعنا تحت تهديد الموت الجماعيّ يلزمنا أن نخترع قانوناً من أجل هذا العنف الموضوعيّ،
وفي هذا السّياق يقول
سير:
" تتلخص علاقتنا الأساسيّة مع الأشياء في الحرب والملكيّة، وأنّ مقدار الأضرار والخسائر الّتي ألحقناها بالعالم في أيّامنا تضاهي تلك الّتي تتركها حرب عالميّة خلفها.."
لقد تحوّل صراعنا إلى صراعٍ ضدّ العالم بأسره بعد أن كان صراعاً يقُوم بين البشر، وكأنّه من خلال منطقٍ تلويثيٍ محض يبسط المسيطرون إنسانيتهم على العالم ويعلنون تملّكهم له، وهنا يضرب الفيلسوف مثالاً – هو برغم بساطته المنفّرة – معبّراً، فعندما يبصق أحدهم داخل صحنه وهو في مطعمٍ، يحُول بفعله هذا دُون طمع الآخرين في محتوى الصّحن .
وننوّه في هذا السّياق بكتابه الموسوم:
الشّر المحض، الّذي يتحدّث فيه بإسهابٍ عن ظاهرة التّلويث باعتبارها علامةً على إحراز الملكيّة، وذلك في مختلف الميادين وعند سائر الكائنات الحيّة بما فيها الإنسان، ممّا يجعل فعل التملّك عند سير ذا مصدرٍ حيوانيّ، فيزيولوجيّ، جسديّ وعضويّ، وليس نتيجة اتّفاقٍ أو أيّ قانونٍ وضعيّ .
والمطلوب منّا أن نؤسّس لعقدٍ جديدٍ يتحوّل إلى
معاهدة كراءٍ (traité de location)، فعندما نصبح مجرّد مستأجرين يمكننا حينها أن نفكّر في السّلم مع البشر على أنّه سلمٌ مع العالَم .
يتّضح ممّا تقدّم أنّ هناك نوعٌ من التّقاطع مع أطروحة
توماس هوبز(1588-1679)، إلاّ أنّ هذا الأخير في نظر
ميشال سير أخطأ لأنّ صراع الجميع ضدّ الجميع هي حالة عنفٍ لا يتوقّف، بينما الحرب فهي حالة قانونيّة باعتبارها وضعاً منظّماً لحالة العدوان وتفترض اتّفاقاً سابقاً
(un accord préalable)، فحربنا اليوم هي حرب الكلّ ضدّ الكلّ ولكن ليس بالمفهوم
الهوبزي، وذلك لوجود عدوّ مشترك وموضوعيّ للعالم البشريّ بأسره .
في هذا الإطار، فإنّ الحلّ إنّما يكمن في تأسيس حقّ يمكن عدّه أدنى تحدّي جماعي للفعل الطفيليّ أو التطفّلي، بخاصّةٍ ونحن ندرك أنّ مسألة الحقوق إنّما عبّرت تاريخياً عن نوعٍ من التّحرير
(libération) لفئة الغرباء والفقراء والأطفال والنّساء، حتّى تصبح موضوعاً له وتتمتّع بأهليّةٍ أمام العدالة أي القانون وكذلك الخدمات العامّة،
وبالطّبع فإنّ العقد الاجتماعيّ كان ضرورياً لتكريس هذا الوضع وتحقيق نوعٍ من التّوازن في المجتمع البشريّ، ولكنّه لم يكن كافياً وظلّ قاصراً عن حماية العالم الذّي يأوي الإنسان، والنّتيجة أنّ العقد الطّبيعي الّذي سينادي به سير إنّما يتولّى الدّفاع عن أطروحةٍ جديدةٍ تقوم على الاعتراف
(reconnaissance) بأنّ الأحياء والموضوعات الجامدة وكلّ ما يندرج تصنيفه في إطار الطّبيعة هو موضوعٌ للحقّ، ومنه علينا أن نفكّر في عقدٍ طبيعيّ معها كما سبق وأن فكّرنا فيما مضى في عقدٍ اجتماعيّ بين البشر والأمم فقط. إنّه عقد طبيعيّ واجتماعيّ من نوعٍ جديدٍ نحقّق من خلاله السّلم مع العالم حفاظاً على وجودنا واستمرارنا في الحياة.
إنّ كتاب
" العقد الطبيعي" لميشال سير يشكّل في الواقع ذروة تفكيره في هذه المسائل، والقضايا الّتي تناولها فيه يمكن إجمالها في صرخةٍ أطلقها ضدّ الخلل والاضطراب والعنف الّذي صار يسِم علاقة الإنسان بالطّبيعة والمجتمع – وهو الّذي كان من أشدّ المستنكرين لإلقاء أوّل قنابل نوويّةٍ في تاريخ البشريّة بل وشكّلت باعترافه منعطفاً رئيسياً في تفكيره - وراح ينعي حالة التفتّت والتفكّك في التّعامل مع الطّبيعة الّتي تمّ تقسيمها إلى أجزاء وميادين مستقلّةٍ عن بعضها البعض،
وكأنّه لا يوجد في الأساس ما يجمع بينها، داعياً من خلال ذلك إلى نظرةٍ جديدةٍ تتحكّم في تحكّمنا وسيطرتنا على الطّبيعة الّتي بتنا نبدُو ضعفاء أمامها.
يكمن المخرج في نظر
سير في إرساء
عقد معرفةٍ "contrat de connaissance" يتسنّى من خلاله للعالِم أن يحكُم ويشرّع . على العقل الطبيعي أن يكُون عادلاً ومنصفاً وهو ما لا يتحقق له إلاّ إذا كان العقل الّذي تعتمده العلوم العقلية عقلاً عادلاً، يصل بين
الحكم (le jugement) و
العقل (la raison) الّذي يحكم بحذرٍ، وهذا تفادياً للشّر الّذي غالباً ما تكون العلوم والتّقنيات مسئولة عنه.
إنّنا نعيش في نظر
ياسبرس واقعاً تتنازع فيه الدّول الّتي استطاعت بحُكم تقدّمها العلميّ والتّقني أن تصيّر العلم أداةً في خدمة أغراض لا إنسانيّةٍ، جعلت البشريّة تعيشُ على حافة الهاوية فأصبح العلماء يداً عاملةً خاصّةً ومجرّد آلاتٍ صمّاء في خدمة حكُوماتٍ متعطّشةٍ لأسلحةٍ ذات فعّالية قصوى في التّدمير، وهو الأمر الّذي خلق هوّة بين عبقريّة إنتاجهم وسذَاجتهم السّياسية ،
والسبّب الّذي جعل العلم يهدّد الإنسانيّة هو جُنوح رجال السّياسة إلى الشّر والرّغبة في التحكّم في رقاب الغير. وهو السّياق الّذي جعل
ألبرت أنشتين يندّد بويلات الحرب من خلال نداءٍ عبّر فيه عن موقف علماء أجلاّء ممّن شاركُوه القناعة نفسها مثل
Niels Bohr 1885-1962" وWhitehead "1861-1947" وغيرهما، وذلك في رسالته المؤرّخة في
16 / 02 / 1955 الّتي ردّ بها على مطلب
راسل .
و كما يقول
ماركوز :
إنّ المجتمع الصّناعي قد أصيب بنوعٍ من الامتثاليّة وأصبح استعمال عبارات " طاقة تدميريّة مُريحة " أو"القنبلة النّظيفة" أمراً مألوفاً وطبيعيّاً بفعل إلحاح الدّعاية والإعلان،
والمعنى برُوز لغةٍ سلبيّةٍ يبتكر ألفاظها رجال السّياسة تُنوّم وتُوحي بمَا يريدُونه هُم،وتكُون بذلك لغة فكْرٍ أُحاديّ البُعد أي " لغة مقفلة" ومُغرضة، والأخطر أنّ العلوم الّتي تدرس وتدرّس من قبيل ذاك الجيل لا تتميّز فقط بكونها عاجزة عن التّصدي للنّتائج الكارثيّة النّاتجة عن تطبيقاتها التّقنية كما ترى الألمانية المعاصرة
حنة أرندت (1906-1975)،
بل كذلك بكونها قد وصلت إلى مستوى من التّطورات صارت معه أضأل اختراعاتنا المشئومة قادرةً على أن تتحوّل إلى سلاحٍ من أسلحة الحرب . إنّه الوضع الّذي يعكس التّناقض الّذي في المجتمع الصّناعي الّذي تحققت فيه طمأنينة الإنسان الاقتصاديّة في مقابل شعوره بالعجز والوحدة والقلق واللاّجدوى كما يرى
إريك فروم (1900-1980) .
والنّتيجة الحتمية المترتّبة عن هذا الوضع هي أفُول القيَم
(l’éclipse des valeurs) وما ينجرّ عنها من مخاطر وشرُورٍ بحيث لم يعُد بإمكاننا في نظر
ماكس شيلر Max
Scheler"1874-1928" سوى تصوّر عالَمٍ بلاَ قيمٍ يخضعُ فيه الإنسان إلى قيمةٍ حيويّةٍ واحدةٍ هي السّيطرة والتحكّم في كلّ شيء، ومن الجليّ كما يتّضح اليوم أنّها سيطرةٌ وهميّةٌ
(illusoire)
حيث يستحيلُ علينا أن نُخضع العالم لإرادتنا دُون أن نُدمّر أنفسنا وذلك بسبب المُغالاة واللاّعقلنة المُفرزَة، وتحوّلت القيمة الاستهلاكيّة إلى ديانة جديدةٍ ووحيدةٍ.
ولأنّ اختيار العقلنة كما يقُول
كارل بوبر Karl Popper "1902-1994"
ليس محض اختيارٍ عقلانيّ إنّما هو اختيارٌ أخلاقيّ أيضاً، فإنّ ذلك يُحيلنا لا محالة إلى ما يسمّى بإيكولوجيا العقلنة أو العقلنة الخضرَاء، والمعنى المقصُود من ورائها واضحٌ حيث يتمّ الدّفاع عن الطّبيعة والحياة المُتجدّدة النّظيفة في مُقابل المدّ الصّناعي الكبير، وهو المنحى نفسه الّذي ينطلق منه
هانس يوناس.
لقد أصبحنا كما يرى
بول ريكور
نعيش حالة تمزّقٍ بين قيمة المبادئ الأخلاقيّة العليا الّتي كنّا نؤمن بها وبين المُمارسات السّياسية والأخلاقيّة الّتي تنزع نحو السّيطرة والرّغبة في الهيمنة والتفوّق المادّي، وذلك على حساب القِيم الإنسانيّة الأصيلة،
الأمر الّذي يفرض البحث عن
إتيقا جديدة وهو ما يتّضح بجلاَءٍ في ما تقدّمه علُوم الحياة من إمكانات التحكّم في الولادة والهندسة الوراثيّة والجهاز العصبيّ، وهي بذلك ترتبط بالتحوّلات الّتي أفرزها الفعل الإنسانيّ
(l’agir humain)،
والمعنى أنّ التطوّر التّكنولوجيّ ينبغي أن يُوضع موضع مُساءَلةٍ لأنّه غير مُحايدٍ أخلاقياً، باعتبار أنّ العلم والتّقنية أصبح يشتغلان في إطار حقلٍ كوْنيّ.
إنّنا نعيش عصراً يدّعي النّجاعة العلميّة الّتي بإمكانها الاستجابة لكلّ مطالب الإنسان، وهو ما سيفترض لا محالة مسئولية الإنسان تجاه الإنسان وتجاه الطّبيعة في الحاضر وفي المستقبل على حدّ سواء، ومن ثمّ الحاجة إلى ضرُورة ضمان شرُوط وجُودٍ كفيلةٍ بضمان إقامتنا في مستقبل عالَمٍ هشّ ومُهدّدٍ لا خيَار فيه أمام المرء سوى الانسياق داخل وتيرة تقدّمه السّريع والمُفرط، بسبب ما أفرزته ديناميكيّة القيم الموجّهة للحداثة كالحرّية والمساواة وما انجرّ عنها لاحقاً من انصياغ الفرد للّذة والاستهلاك تحت غطاء الفردانيّة
(Individualisme).
هو السّياق العامّ الّذي أراد
هانس يوناس من خلاله مُواجهة النّزعة الأداتيّة، مراهناً من خلال ذلك على إمكانيّة استعادة قيمة العقل باعتباره حكمةً وتعقّلاً، منشئاً نوعاً من المُصالحة بين الإنسان والطّبيعة أي بين مملكة الحرّية والضّرورة.
هو انشغالٌ بل وهاجسٌ أثاره برتراند راسل من قبل حين انجرّ عن الرّأسمالية في نظره مساوئ وإخفاقاتٍ تمثّلت في الظّلم والحرمان وتعزيز الدّوافع التملّكية، والّتي انعكست نتائجها كلّها سلباً على أغلبيّة أفراد المُجتمع من الفقراء والعُمّال الذّين استُنزفت طاقاتهم وقواهم وأصبحُوا عُرضةً للمرض والهلاك، وهو سُوءٌ لم تنجُو منه الثّروات الطبيعيّة من غاباتٍ ومناجم وحقولٍ تمّ إنهاكها عملياً أو سوف يتمّ في وقتٍ قريبٍ .
إنّه تبذيرٌ في رأس المال الطّبيعي الّذي تزايد بسُرعةٍ بخاصّةٍ ما بين
(1800-1950) ، فالشّيوعيين في رأيه افترضوا أنّ الصّراع بين الشّيوعية والرّأسمالية نتيجته الضّرورية هي انتصار الأولى ولم يتصوّروا إمكانية العودة إلى الهمجيّة وهو أمرٌ واردٌ، بدليل أنّ الواقع الّذي تفرزه الحرب الحديثة الّتي قد تُستعمل فيها الغازات السّامة والأسلحة البكتريولوجيّة سيحطّم ويدمّر الحياة والمنشآت.
إنّه بصفةٍ عامّةٍ برنامج السّيطرة على الطّبيعة أو تدجينها الّذي راح الإنسان المعاصر يتمتّع به منذ فجر العلم وما جاء به من تكنولوجيا واستراتيجيّة التّهديد والهدم، وذلك بالطّبع تحت شعار تحقيق الحاجات وإرضائها، أي أنّه النّموذج الثّقافي الّذي أصبح يبدو وكأنّه إيديولوجيا لتحوير الطّبيعة ومعالجتها وفقاً لهوى الإنسان.
هذا، والتّقنية الّتي يعمل
لوك فيري على توصيفها مُستشهداً في ذلك
بهيدغر (1889-1976) يعُود أصلها إلى بزُوغ
(emergence) العلم
الديكارتي الحديث كما سبقت الإشارة إلى ذلك،
والّذي كان يعِد الإنسان بتحقيق السّيطرة
(domination) على الكون، بحيث شكّل التقدّم الحضاريّ الّذي أحرزه العقل الأمل الّذي انعقدت عليها فلسفة الأنوار والمحرّك الّذي بعث فيها الحياة، وبرغم هذه العقيدة كنّا لا نزال في نظر
فيري بعيدين عن هذا الكون الّذي تلاشى فيه اعتبار الغايات
(les fins) بشكلٍ خاصّ لصالح الوسائل
(lesmoyens)،
والمعنى أنّ عقلانية القرنين السّابع عشر والثّامن عشر قامت على مشرُوع السّلطة أو الهيمنة العلميّة
(la maitrise scientifique)على الطّبيعة ثم على المجتمع، وقامت على مطمعٍ أي قصدٍ انعتاقي أو تحريريّ
(visée émancipatrice)، لأنّ السّيطرة على العالم لم تكن تحكمها الرّغبة أو الإعجاب بقوتنا الخاصّة إنّما حكمها إحراز بعض الأهداف الّتي حمَلت اسم الحرّية والسّعادة.
بهذا المعنى وتحديداً من أجل هذه الغايات شكّل تطوّر العلوم بالنّسبة لأسلافنا اتّجاهاً
(vecteur) لتطوّرٍ آخر هو تطوّر الأخلاق أو الآداب
(les mœurs)، ربّما كان تصوّراً وهمياً من طرفهم لكنّه لم يكن ماكيافليًّا أبداً.
إنّ نظرتنا التّقنية للعالم كما يقول
فيري تطلّبت خطواتٍ إضافيةٍ وهي أن تمتنع الإرادة عن مقصد الغايات الخارجيّة لتصبح موضوع ذاتها، وهو ما حصل تحديداً مع
نيتشه (1844-1900) في نظر
هيدغر من خلال مفهوم إرادة القوّة
(la volonté de puissance) الّتي تعبّر عن الأسّ أوالرّكن الميتافيزيقيّ الحقيقيّ للتّقنية الكوكبيّة الّتي نسبح اليوم في ظلّها، وهي تشكّل الإرادة الأصليّة
(volonté authentique)الّتي تهفو لتصبح " إرادة الإرادة "، فتكفّ عن كونها إرادةً ترغب في شيء لتنشد زيادة وإنماء قوتها الحيويّة الخاصّة، حتّى تصل إلى كمالها ومنتهاها، وهي حين ترغب في ذاتها تصبح سيطرةً من أجل السّيطرة أو قوةً من أجل القوة وتكفّ عن الانقياد كما هو الحال في التطوّرية المثاليّة للأنوار، ولا يمكن أن ننكر بأنّ حياتنا السّياسية بدأت تندرج وتندمج في هذا الإطار من الأفق التّقني .
3-يوناس وأخلاق المسؤولية:
يقول
يوناس:
" إنّ البروميتيوس المنطلق نهائياً والّذي وهَبه العلْم الحديث قوة لا عهد بها لأحدٍ ووهَبه الاقتصاد زخماً لا حٌدود لمدَاه، يتطلّب قيوداً أخلاقيّةً من شأنها أن تعمل - بفضل حواجز يجري وضعُها عن طواعيّةٍ واختيار- على الحيلُولة دُون أن تصبح قوة الإنسان وبالاً عليه ولعنةً "
بمثل هذه العبارات يفتتحُ الفيلسُوف مؤلّفه الشّهير، والفكرة المبدئيّة الّتي يتضمّنها هي أنّ ما كانت التقنية الحديثة تلوّح به من وعُودٍ
(promesses) برّاقةٍ قد استحَال وعيداً وتهديداً
(menace) بسبب النّجاح المخيف والخطِر والّلامحدُود الّذي أحرزته، بحيث استحالت إلى وحشٍ ينبغي تدجينه، والمطلُوب لاتّقاء شرُوره أن نستبقَ الخطَر
(anticiper le danger)،
لهذا فإنّ موضوع الرّهان لا يقتصر على مصير الكائن البشريّ، بل يتعدّاه إلى صورته، كما لا يقف عند حدّ سلامته الجسديّة، بل يشمل أيضاً سلامة نوعه وبقاءه.
منذُ الوهلة الأولى يبدُو أثر الأخلاق
الكانطيّة واضحاً في موقف
يوناس الأخلاقيّ وكذلك تأثير
فريدريك نيتشه (1844-1900) و
مارتن هيدغر (1889-1976) على التّوالي،
فالفعل الأخلاقيّ لا يحصُل بمقتضى مفهُوم الواجب الذي يُعدّ أساس الإلزام عند كانط، إنّما لابدّ له من محفّزٍ
(stimulant) يقعُ خارج الفعل الأخلاقيّ
(l’agirmoral)، أي أنّه لابدّ أن يرتبط بمادّة الفعل وبمضمُونه أو بنتائجه ليعبّر عن اندماج الكائن مع الحياة،
ممّا يجعلُ أخلاق
كانط مجرّد أخلاق مبادئ في نظره لأنّها لا تأخذُ في الحُسبان فكرة الإنسان الّتي ينبغي لها أن تعوّض الأمر القطعيّ. يقُول
يوناس:
" افعل بحيث تتوافق نتائج فعلك مع استمراريّة حياةٍ إنسانيّةٍ أصيلةٍ على الأرض"
وهو ما يؤّكده بصيغةٍ أخرى في قوله:
" لا ينبغي مُطلقاً أن يُوضع وجود الإنسان أو جوهره في كلّيته موْضع مُساءلةٍ في رهانات الفعل"
وهو ما يجعل الفعل الأخلاقيّ إنّما يقُوم على ما هو محلّ فسادٍ
(périssable) فيكُون موضوعاً للمسئوليّة ، وبالتّالي يتّجه الأمر الأخلاقيّ هنا إلى مستقبلٍ قابلٍ للحساب،
وتجدر الإشارة في هذا السّياق إلى أنّ الأخلاق
الكانطية إنّما تهتمّ بالأفراد الّذين يتزامنون في الحقبة الزّمنية فلا يحيل إلى وجود غدٍ أو مستقبل للنّوع البشريّ فوق الأرض، هذا لأنّ الأمر كان مسألةً قطعيةً بالنّسبة إلى
كانط بما أنّ عصره لم تكن فيه علاقة الإنسان بالطّبيعة قد ارتقت إلى حدّ الخطر، ولكنّه يأتي على ذكر هذا البعد في كتابه:
مشروع السّلام الدّائم.
أمّا عن
نيتشه فهي العَدَميّة وتهاوي القيَم، تلك القيم الّتي اصْطنعها المُستضعفُون والمنحطّون والّتي جعلَت الإنسانيّة تعيشُ على عبادة أصنامٍ في الفلسفة والأخلاق والسّياسة جاعلةً بذلك من الثّقافة تعبيراً عن تشكيل القطيع، فالغايات تمّ تغييبُها ووحدَها العودة إلى الذّات بإمكانها أن تستكشف إرادة القوّة الّتي هي إرادة الحياة، والمعنى أن يعمَل الإنسان في نظر نيتشه على تجاوُز ذاته ليَصير كائناً أرقى. هذه المرجعيّة النيتشويّة لن تلقى استحساناً لدى يوناس لأنّها تقُوم على التضحيّة بالماضي والحاضر من أجل مُستقبلٍ مجهُولٍ.
في هذا السّياق يتجلّى نقد
هيدغر للحضارة الغربيّة واضح الأثر على تفكير
يوناس، لأنّه يعتمد المنطلقات نفسها حيث شوّهت التكنولوجيا واقع الإنسان مُفقدةً من خلال ذلك العالَم أصالَته، عندما جعلته التقنيّة يُقرّ بالتّجانُس والتّماثُل متناسيةً في خضمّ ذلك الوعي بالوُجود تحت وطأة الاستهلاَك وهيمَنة التقنيّة، الّتي تعُود امتداداتها وجذُورها إلى
الديكارتيّة. إنّه عالمٌ تقنيٌّ لا يعدّ الإنسان مهيئاً بعدُ للتحوّلات الحاصلة فيه، ممّا يجعل من التقنيّة قدَراً يحتاج إلى تصويبٍ- إن أمكن ذلك- لأنّه أهمل الوُجود. في هذا الإطار يعبّر
يوناس عن امتدادٍ
للهيدغرية من خلال الصّورة الّتي سيرسُمها للإنسان.
يقُوم مشروع
يوناس الإتيقي على مبدأ المسئوليّة تجاه الأجيال القادمَة، منطلقاً من تحليل باكون للمعرفة بأنّها قوة من شأنها أن تُحرز الهيمنة على الطّبيعة والّتي على العكس سبّبت انفلات السّيطرة من الإنسان فأضحى عبداً، وكذلك من النّموذج الّذي قدّمه
إرنست بلوخ E. Bloch "1885-1977" في كتابه:
الأمل مبدءاً (principe Esperance)، بالإضافة إلى
الماركسيّة.
هذه المحاولات الّتي عبّرت في نظره عن مشاريع طُوباويّة راحت تدّعي قدرتها على تصوّر مُستقبلٍ للإنسان متناسيةً كما يقُول
يوناس أنّه كائنٌ إشكاليّ، مقرّاً في الآن ذاته بضرُورة أن نتعلّم من الماضي أيضاً وأن نبتعد قدر الإمكان عن الأحلام الطّفولية، ولعلّنا في هذا السّياق نحتاج إلى إثارة الإشكاليّة التّالية وهي: كيف نكُون مسئُولين عمّا أو عمّن لم يُوجَد بعد أيْ عن الأجيال القادمَة أي في غياب من يُطالبُ بالحقّ؟
تجدر الإشارة منذ البداية إلى أن
يوناس صدمته أحداث هيروشيما والسّباق من أجل التّسلح الذّري، وشكّلت بالنّسبة إليه الحافز نحو تفكيرٍ مهمومٍ وقلقٍ بشأن التّقنية في العالم الغربيّ، فنحن في نظره حققنا الانتصار ولكننا سعينا نحو الدّمار الذّاتي والجماعيّ وهو الوضع الّذي يتطلّب أخذ قراراتٍ إشكاليةٍ، لأنّ الابتكار الّذي هو في خدمة الإنسان قد يدخل في صراعٍ مع الكرامة الإنسانيّة، ومن هنا كان لابدّ من إعادة طرح العلاقة الّتي تعبّر عن الثّنائية القديمة (العقل/المادة) أو(الإنسان/الطبيعة)
.
من هذا المنطلق كان على الفلسفة أن تضطلع بمهمّة جديدةٍ فتعيد ضبط علاقاتها مع الطّبيعة وعلومها بخاصّةٍ ونحن نعيش في ظلّ مفارقة النّجاح الهائل الّذي يهدّد بالتّحول إلى كارثةٍ من خلال تدمير قاعدته الطّبيعية الخالصة، حيث اهتمّت –الفلسفة- حتّى الآن بحياة الفرد الفاضلة والمجتمع الفاضل وكذلك الدولة المثلى أو الفضلى أي بعلاقة الإنسان بغير من البشر في مستوياتٍ مختلفةٍ، ولكنّها لم تهتمّ مطلقاً بالإنسان بما أنّه قوة فاعلة ومؤثّرة في الطبيعة، والمطلوب في نظر يوناس أن نعيد فهم الإنسان من خلال فهم الوحدة بين العقل والجسم، فحاجات هذا الأخير بسيطة الإشباع ولكنّ العقل يزيد من شدّتها ولاتناهيها، إلى جانب مطالبه الذّاتية الأكثر سموّاً وهو الوضع الّذي يقود لا محالة إلى مضاعفة الاغتصابات في حقّ الطّبيعة، ومعنى ذلك أنّ العقل جعل الإنسان في مصافّ أكثر الحيوانات شراسةً وقسوةً، فراح يستهلك رأسمال البيئة الوحيد وهو الطّبيعة .
لقد مُنح العقل لمخلوقٍ غريزيّ ذو مطالب وحاجاتٍ حوّلته بذاته –الإنسان- إلى أداةٍ
(instrument)، إلاّ أنّه-العقل- لم يكن مجرّد ذكاءٍ أداتيّ
(intelligence instrumentale)
إنّما تمكّن من خلال محفّزاته الّذاتية من إدراك القيم عبر بناء مفاهيم الخير والواجب، وهو بذلك يعلن مسئولية الإنسان عن فعله، بخاصّةٍ وهو يهدّد المجموع وبالتّالي يعترف بمسؤوليته في المحافظة عليه.
إنّها المهمّة الجديدة للفلسفة الّتي بمقتضاها ستعمل على حشد وشحذ الضّمائر لتكُون على أهبّة وفي حالة استنفارٍ ضدّ الخطر، ثم العمل على تحقيق سلمٍ بين العقل والطّبيعة من خلال تأسيس واجبٍ عقلانيّ للمسئولية يستند إل تأويلٍ شاملٍ عن الوجود/الموجود، وهو سلمٌ لن يتمّ إحرازه إلاّ بتضافر كلّ الكفاءات من علوم الطبيعة والإنسان والمجتمع والاقتصاد والسّياسة، حتّى يتم وضع تقريرٍ عن الكوكب من خلال مقترحاتٍ لميزانيةٍ تحقق التّوازن بين الإنسان/الطبيعة، ولنا نتساءل في هذا المقام
عن إمكانية تحقيق السّلم بين طرفين العلاقة الأصلية الّتي تجمعهما هي علاقة صراع؟
إنّ الشّعور بالمسؤوليّة عند
يوناس إنّما يكُون تجاه ما هو هشّ
(fragile) وهنا يتحدّث عن
براديغم المولُود الجَديد
(le nouveau-né) و
المسؤوليّة الوالديّة (responsabilité parentale) ،
فالطفل يملك رغبةً في العيش
(le vouloir vivre) ولا يستطيع الحياة إذا تُرك وشأنه وبقاءه رهنٌ بعمل أو فعل واجب
(un devoir faire) يصدُر من الآباء وبالتّالي فهُناك سلطةٌ سببيّةٌ أو علّية بين الطّرفين ممّا يجعل المسؤوليّة علاقة غير متبادلةٍ
(non- réciproque) لأنّها تجاه من لم يُوجد بعد (الأجيال القادمة أي المستقبل البعيد)،
وهذا ما قد ينسحب على شعُورنا تجاه المحتاجين والفقراء والمشرّدين حيث بإمكاننا أن نقدّم لهم يد المساعدة فيغمرُنا شعورٌ بالمسئوليّة تجاهَهم، أو نفتقدُ إلى أدنى شعُورٍ بالغيريّة أو الآخر
(l’altruisme) فتكون اللاّمبالاة
(l’indifférence).
إنّ
المولود الجديد بما أنّه
براديغم جديدٌ في المسؤولية يفترض أن تكُون المسئوليّة الوالديّة كلّية أو شاملة (totale)، لأنّها مسئولية عن الطفل الكائن برمّته، وعن كلّ ما قد يقع للرّاشد الّذي سيؤول إليه، أي هي مسؤولية عن حياته ومصالحه المختلفة، وهو ما يقود لا محالة إلى خاصّية
الاستمراريّة (continuité) و
التّاريخية (historicité)،
لأنّ الأب يضع في اعتباره عند أيّ قرارٍ يتّخذه التّاريخ العامّ لهذا الأخير-الطفل- بحيث يتناسب فعله مع ماضيه ومستقبله بخاصّةٍ وأنّ الطفل وهو راشدٌ يتحوّل من وضعية موضوعٍ للمسئولية إلى وضعية فاعلٍ بما أنّه قد يكُون مسئولاً عن غيره أيضاً، وبالتّالي فموضوع مسئولية الوالدين هو كائن حرّ له تاريخية بحيث سيتمكّن مستقبلاً من الاختيار وتوجيه مصيره ليكون سيّد نفسه في النّهاية .
والمعنى عند
يوناس هو
-
أوّلاً في الشّعور بالمسؤولية في حدّ ذاته وما نستطيعُ القيام به
(le pouvoir- faire) أي تجَاه ما يجب أن يُفعل باعتبار أن ما يدفع إلى الفعل يقع خارجاً عنّي، ولكن في نطاق
(la sphère) قدرتي على الفعل، ويصبح السّبب بذلك خاصّاً بي لأنّ القدرة
(le pouvoir) على الفعل تخصّني ولها علاقة سببيّة تحديداً مع السّبب ، ويُتابع
يوناس بأنّ الشّيء الأوّل هو الوجُود الواجب
(le devoir-être) للموضُوع،
-
والثّاني هو وجُوب الفعل
(le devoir-faire) للذّات
(sujet) الّتي تضطلع بمسألة السّببية. إنّه التماس الموضوع من جهةٍ مع انعدام أيّ ضامنٍ لوجوده، ومن جهةٍ أخرى الوعي بالقدرة والمسئوليّة السّببية عنه، وهما معاً يتّحدان في تأكيد شعور الذّات الفاعلَة، وإذا انضاف إليها الشّعور بالمحبّة حصلت المسئوليّة بذلك على حيويّة تفاني الفرد الّذي يتعلّم الخشية على مَصير ما هو جديرٌ بالوجود وكذلك موضُوع حُبّ أي موضوعاً للمحبّة .
والواجب هنا هو تجاه الهشّ الّذي هو عرضةٌ للهلاَك والتّلاشي مثل الطّبيعة والحياة في مُجملها وهو إلزامٌ غيرُ متبادَلٍ كما قدّمنا، وعنه نشأ علمٌ جديدٌ – كما سبقت الإشارة- هو
علُوم البيئة أو الإيكولوجيا (Ecologie)،
وبالتّالي تجاه
المجَال الحيويّ (la biosphère) ،
وفي هذا السّياق يتجلّى حجم المسؤوليّة بقامتها الجديدة–أي الطّبيعة في امتدادها الفضائي والسّلسلة الطّويلة للسّببية بالإضافة إلى الفعل التّراكمي- . وهنا يمكننا القول أن
يوناس قد أبدع معرفةً استشرافيةً تتأسّس على معطيات الحاضر، وهي في واقع الأمر معرفة افتراضية تنبّئية تأخذ في الحسبان نتائج التّطبيقات التّكنولوجية على المدى البعيد،
وهي ما يعرف
بالفيتورولوجيا (futurologie). إنّها أخلاق الحماية والوقاية مادامت تهتم بمصير الإنسان ووقاية الوجود المستقبليّ له ومسؤولية تجاه الوجود برمّته ومن هنا كانت مسؤولية
أنطولوجيّة، أي هو التّأسيس
لإتيقا يكُون انشغالها هو المستقبل، من خلال عملية إسقاطٍ
(projection) بعيدة المدى تعبّر عن علم مستقبلٍ يختصّ بالإنذار
(futurologie de l’avertissement) ، ومنه يشكّل المستقبل البعد الجديد
للأخلاق أو
الإتيقا، فتنفتح بذلك آفاقٌ جديدةٌ للمسائل الأخلاقيةّ مثل
العدالة والخير وغيرها.
وللإشارة فقد كان
يوناس يعتقد في مسؤولية الاقتصاد الحرّ في جعل الأزمة الإيكولوجية أزمةً مفتوحةً، وربّما من هنا نفهم انحيازه
للماركسيّة/الاشتراكيّة في البداية باعتبار أنّ الدّولة هي المسيّر بحيث تقلّص من حاجيات مواطنيها وتحُول دون التّبذير كما تسهر على تحقيق الاعتدال في التّعامل مع الطّبيعة ، فهي أكثر عقلانية في تسيير الموارد والثّروات عبر تخطيطٍ مركزيّ يقضي على الطبقية لتتحقق المساواة، كما أنها تعمل على نشر عقيدة التّضحية بالرّفاهية من أجل الأجيال القادمة أي مستقبل الإنسانيّة ، ولكن برغم ذلك أثبت الواقع أنّ نسبة التّلوث في البلدان الاشتراكيّة كانت أكبر وأشدّ بخاصّةٍ بلدان في أوروبّا الشّرقية.
في هذا السّياق نشير إلى التّداخل الكبير الّذي كانَ حاصلاً في العُقود الماضية بين الإيكولوجيا وبين البيئة
(environnement)، إلى أن تمّ الاتّفاق بعد مناقشة هذه المصطلحات في عدّة مؤتمراتٍ عمُوماً على أنّ البيئة هي الإطار الّذي يعيش فيه الكائن الحيّ مُتفاعلاً مع الكائنات الحيّة الأخرى كجزءٍ من
الغلاف الجوّي (biosphère) سواءٌ في
غلاف الهواء الحيويّ (bio-atmosphère) أو
غلاف المياه الحيويّ (bio- hydrosphère) أو
غلاف القشرة الأرضيّة الحيويّ (bio-lithosphère) مع العناصر والمكوّنات البيئيّة غير الحيّة كي يحصُل منها على مقوّمات الحياة من هواءٍ وماء .
إنّ البيئة هي الوسط الطّبيعي لحياة الكائنات الحيّة بما فيها الإنسان، وأيّ خللٍ أو اضطرابٍ يعتري توازُنها تنعكس نتائجه عليها سلباً لا محالة، والأضرار الّتي سبّبها عالم الوفرة كمَا يقول يوناس كثيرةٌ جداً وفاضحةٌ، وذلك من قبيل التغيّرات المناخيّة، والاحتباس الحراريّ
(réchauffement climatique) وثقب الأوزون،
وانقراض الأنواع
(disparition des espèces) وانتشار الأوبئة العالميّة والمُعولمة العابرة للقارّات والمحيطات، والتلوّث الإشعاعي
(pollution radioactive )، وتقلّص المساحات الخضراء، والتّحطيب غير المُراقب، والتمدّد العمراني، والنّفايات الصّناعية وغيرها ، ومنه فإنّ المطلُوب هو أن نهيّئ في أنفسنا ذلك الشّعور المُناسب تجَاه أجيال المُستقبل وما يتهدّدها من أخطارٍ بسبب الاضطراب الحاصل في النّظام البيئيّ
(l’écosystème) فيتحقق لدينا تصوّرٌ عن النّتائج البعيدة المُحتملة للتقنية ، وهو خوفٌ على الإنسانيّة وليس على ذرّيتنا، والمشكلة الأولى الّتي تواجهنا في هذا السّياق هي الهوّة الكبيرة الّتي تفصل بين قوة المعرفة التنبّئية
(savoir prévisionnel) وقوّة الفعل (l a force du faire) .
إنّنا نخاف بمفهومٍ ميتافيزيقيّ من
تشويه (déformation) أو
اختفاء (
disparition) فكرة الإنسان لأنّ التلوّث بفعل الاستهلاك المُفرط يُعرّض حياة الكائنات الحيّة للخطَر ومن المُؤكّد أنّ هذا الخطَر هو خطرٌ واقعيٌّ أو مُحتملٌ ولكنّ وقوعه مُؤكّدٌ، والمعنى أنّ الأخلاق ستعرفُ لها موضُوعاً جديداً هو الطّبيعة بدلاً عن الأخلاق التّقليدية الّتي ارتكزت حول المركزيّة البشريّة
(anthropocentrisme) .
لا ينبغي أن نفهم ممّا تقدّم أن
الأخلاق اليوناسية تقُوم بشكلٍ مطلَقٍ على استكشاف الخوف
(l’heuristique de la peur) رغم الدّور الّذي يلعبه باعتباره مُوجّهاً سيكولُوجيّا للفعل،- وهو يشبه في ذلك الموقف الهوبزي -
لأنّ الأصل في المسؤوليّة إنّما
هو شعورٌ إيجابيّ، هو الحبّ أو محبّة ما هو موجُود وبالتّالي منحه قيمة. وحدهُ هذا الشّعور يجعلُنا نخاف فنشعرُ بالمسئوليّة لأنّنا نخشى دائماً على من نحبّ. هذا الكلام ينطبقُ على سلُوك الوالدين تجاه الطّفل- يُحبّانه فيمنحانه قيمة – وصاحب العمل تجاه الأجير والحكّام تجاه الرّعايا، والمعنى أنّ الشّعور بالمسئوليّة ينبني على نوع ٍمن الوِصاية (tutelle) والشّعور بالخوف- من الزّوال- والحبّ هو– موضُوعه –
إنّها قيمةٌ أو واجبٌ يتّجه نحو قيادة الفعل التّقني، وهي إلى جانب كونها مسئوليّةٌ أخلاقيّةٌ تُعدّ مسئوليّةً سياسيّةً، حيث يستوجب في رجل السّياسة أن يكُون قادراً على التنبّؤ الحكيم من خلال الاعتماد على الحاضر الّذي يتعدّاه إلى امتدادٍ زمنيّ كبيرٍ على اعتبار أنّ التزامه نحو الرّعية هو التزامٌ حرٌّ واختياريٌّ بتحمّل المسئوليّة ، والمعنى أن ينتج السّياسي أخلاقاً إيكولوجيّة تعيد النّظر في مفاهيم حقُوق الإنسان والعدالة الاجتماعيّة وتؤسّس لتعاقدٍ اجتماعيّ جديدٍ يأخُذ بعين الاعتبار حياة الكائنات الأخرى وحُقوق الأجيال القادمة، وحينها نكُون قد ألغينا الفاصل بين ما هو طبيعيّ وما هو اصطناعيّ وكأنّنا نلِجُ داخل مدينةٍ عامّةٍ
(une cité globale).
إنّ وضع حدّ للأزمة إنّما يكمُن في اتّفاقاتٍ دوليةّ تحدّد وتحدّ من طبيعة علاقة الإنسان بالطبّيعة/ البيئة، وتصير بمقتضى ذلك مبدأ للدّيمقراطية، وهو ما يفترض حواراً فاتّفاقاً بين الشّمال والجنوب/ الأغنياء والفقراء، وهي مهمّة تضطلع بها نخبة من الخبراء تعمل على توعية الرّأي العالميّ دون مللٍ ، وهنا تتدخّل التّربية بشكلٍ كبيرٍ لا يستهان به.
عندما يتحوّل المبدأ الأخلاقيّ الّذي يقول:
"لا تفعل بالآخرين ما لا تحبّ أن يفعلوُه بك"
ليصبح:
"لا تفعل بمن يأتي بعدك ما رفض أن يفعله السّابقون بك"
عندها لن يعُود الآخر، الشّريك، والقريب بل البعيد الآتي الّذي يتمتّع بالحقوق نفسها للإنسان الرّاهن. من هنا يجب أن تتبدّل رؤيتنا إلى الطّبيعة فنحن لا نُسيطر عليها بقدر ما نعيش فيها، ويجب أن تُستبدل علاقة السّيطرة بعلاقة الاحترام، ونخلص إلى أنّ علم البيئة اليوم يُشكّل المدخل الضّروري لإعادة عقلنة العقلانيّة وإيجاد عقلٍ بيئيّ جديدٍ تعقبه سياسة بيئيّةٍ جديدةٍ تقُوم على الوعي بالانتماء المشترك لمجالٍ بشريّ لا يعتبر ملكاً لأحد .
لقد كانت تدخّلات الإنسان في الطّبيعة في بدايتها كما يقُول
يوناس سطحيّة ولم تلحق بتوازُنها أيّ اضطرابٍ، وبالرّغم من أنّه كان بذلك قد خاضَ في عملية غزوٍ غير محدُودٍ لها، إلاّ أنّه لم يعتريها بسُوءٍ وراح يهتمّ بأقرانه وشئونه المدينيّة بذكاءٍ وأخلاقيّةٍ، مُوجداً من خلال ذلك فضاءه الخاصّ الّذي يُعدّ وحده مسؤولاً عنه، في حين ظلّت الطّبيعة مستقلّةً عنه ترعى نفسها بنفسها وتعمل على رعايته في آنٍ معاً ، غير أنّ تدخّله المفرط امتّد إلى ذاته نفسها، إلى طبيعته البيولوجيّة الّتي راح يحاول التحكّم فيها، حيث تحاول بعض التّطورّات الحاصلَة في ميدان البيولوجيا أن تحيط بأسرار السّيرورة البيوكيميائيّة للشّيخوخة بهدَف إطالة الحياة البشريّة وكأنّها ترمي إلى التحكّم في الموت باعتبارها خللاً أو عيباً عُضوياً في الإمْكان تجنّبه
أو على الأقلّ أن يكُون موضُوعاً للعلاج ، ومن قبيل ذلك أيضاً محاولات التحكّم في السّلوك بطرقٍ اصطناعيةٍ كيميائيّة مُفتعلَة تقوم على الموادّ المنشّطة ، ولعلّ أفضعها هو الحلُم الطّموح للإنسان الصّانع في أن يمسك المرءُ بزمام تطوّره الخاصّ من خلال التّعديلات الجينيّة لا بغرض المحافظة على نوعه فقط وإنّما بتحسينه وتغييره بما يتناسب ومشروعه الخاصّ .
لقد حاولنا من خلال هذه
الورقة البحثيّة أن نسهم في دقّ ناقوس الخطر في مجتمعاتنا العربيّة النّامية أو الّتي تسير في طريق النموّ باعتبارها أصبحت مجتمعاتٍ مستهلكةٍ من الطّراز الأوّل والرّفيع وفي جميع الميادين، ولم تعد العناية الإلهيّة هي السّبب أو هي المسئُولة بقدْر ما اكتسَت هذه المسئولية صبغةً بشريّةً خالصةً، بما أنّ علاقتنا بالعالم كفّت عن أن تكون مشكلاً لاهوتياً لتنقلب إلى مسألةٍ بيئيةٍ.
لقد صارت التّكنولوجيا مصدر تهديدٍ وصرنا بمُقتضى ذلك بحاجةٍ إلى إتيقا جديدة قادرة على مراقبة الخطر الشّاسع والممتد، لأنّ مبدأ الحيطة والحذر
(principe de précaution) وحده لم يعُد كافياً باعتبار أنّ الضّرر الّذي يقع يفتقد إلى إمكانيّة إصلاحه أو تعويضه. إنّ المجتمعات الصّناعية تتميّز بإرادةٍ في القوّة وعجزٍ في المبادئ لأنّ الأخطار بَدَل أن تتقلّص تتضاعفُ وتغيّر من حجْمها ومُستواها وبدَلاً عن الحوَادث صرْنا في مُواجهة الكوارث المشتركة، ممّا يجعلُ منّا المتّهم الأوّل الّذي لا مَجال لتبرئته،
فنحْن مسؤولُون بل وآثمون بشكلٍ لا نهائيّ.
لقد فقَدَ المشرُوع التقدّمي الصّناعي والتّكنولُوجي بهذا المعنى مشرُوعيته أو على الأقلّ بداهته وأصبح موْضع شكّ ومُساءَلةٍ.
إنّنا أحوج ما نكُون إلى
إتيقا معاصرة تقُوم
-
أوّلاً على واجب الحذَر الذّي يستند إلى قرارٍ عقلانيّ أثناء الاختيار، وهو ما يفترضُ القيام بمُداولاتٍ أو مُشاوراتٍ تأخُذ في حسَابها تقدير الأخطار المُحتملة.
-
أمّا ثانياً، فلا بدّ من الإعلام أي الإعلان عن اللاّيقين وبالتّالي عن الخطَر احتراماً لكرامَة الإنسان والإنسانيّة. وثالثاً هو واجبُ الإصلاح
(réparation) أو التّعويض عن الخطَر الحاصل، وهنا بالذّات يتجلّى البُعد الاقتصاديّ للمسؤوليّة .
يتبيّن ممّا تقدّم أنّ النّجاح المشطّ الّذي حقّقته التّقنية امتدّ من الإنسان إلى الطّبيعة في مُختلَف مستوياتها فارضاً عليه من خلال ذلك تحدّياتٍ جمّةٍ عليه مواجهتها بفعل عمله، بخاصّةٍ وأنّ الأخلاق التّقليدية لم يعُد في إمكانها أن تُرشدنا بمعاييرها فيما استحدثناه من ضرُوب إشكاليّةٍ تحتاج إلى بثّ عاجلٍ،
وذلك على اعتبار أنّها إنّما كانت تتّصل بتصوّرٍ عن الإنسان الّذي تضافرت على تشكيله فيما مضى مرجعيّات جمّة منها الكونيّ والدّيني والاجتماعيّ، أي أنّ معطيات الواقع الرّاهن أمْلت ضرُورة مُراجعة الكثير من المفاهيم والتصوّرات وبالتّالي فرضت الحاجة إلى أخلاقياتٍ جديدةٍ خاصّة، تقُوم على استكناهٍ مُختلِفٍ للمسئوليّة الّتي أضْحت ترتبطُ بما ينبغي أن يكُون وليس بما كان.
هذا ما يفترض إثارة إشكاليّاتٍ جديدةٍ من قبيل
الإجرام الدُوليّ (crime international) و
الجريمة بلا ضحيّة (le crime sans victime)، وكذلك يفترضُ تصوّراً جديداً للحُقوق والواجبات لم تقدّمه أيّ
أخلاقٍ ميتافيزيقيّةٍ سابقة.
في هذا السّياق فإنّ فكر الفلاسفة من أمثال
ماركوز و
هانس يوناس وكذلك
راسل و
سير- وقُل مثله في فكر التيّارات البيئيّة- رغْم تميّزه بتصوّر مُرعبٍ عن الحداثة بحيث يبدُو معه العلم والتّقنية وكأنّهما رجسٌ من عمل الشّيطان، إلاّ أنّها إنّما تعبّر في الواقع عن ندَاء استغاثةٍ لا بدّ أن يمتدّ صداه داخل العقول في جميع بقاع العالم في ظلّ الكونيّة الّتي نحيا في ظلّها ليشْمل كلّ البشَر في جميع مستوياتهم المعرفيّة،
ومن كلّ التخصّصات علّه يصل بعدها إلى قناعةٍ فعليّةٍ لدى أصحاب القرار ممّن بيدهم الحلّ والعقد. وحده هذا الأسلُوب يمكنه أن يحفظ الإنسانيّة من دمارٍ وتلاشي قد يكُون آجلاً نوعاً ما ولكنّه أكيدٌ لا محالة.
علينا أن نعمل على انبثاق نوعٍ من البشر الّذين يحترمون الطّبيعة وهو ما يُمكن إحرازه من خلال
التثقيف (l’instruction) و
التّربية (l’éducation)، فنحصل على ثلثٍ متكوّنٍ (Tiers instruit)أي شخصٍ مختلفٍ يملك ما يكفي من المعلومات الضّرورية، يحرز وعياً وحبّاً حارقاً للأرض وللإنسانيّة.
إنّه
الحكيم (le sage) الّذي تقُوم تربيته على تلاقُح الثّقافات الّذي يسمح له بالانفصال عن مرجعيّاته التّقليدية لينْغمس في الأماكن الجديدة الّتي لا يعرفها ولا يسيطر عليها. علينا في نظر سير أن نتعلّم وندرك محدوديتنا و
تناهينا (finitude) إلى جانب
لا تناهينا (infinité)، ومنه نحن بحاجةٍ إلى
إيتقا مشتركة
(éthique collective) لمواجهة هشاشة العالَم . بمقدور التّربية أن تكوّن وتقوّي موجوداً حذِراً يحكم بنهايته، وتثقيف العقل الفعليّ يجعله ينطلق في صيرورةٍ أي نحو مصيرٍ غير محدودٍ .
ينبغي أن نتجنّب أن يتحوّل ما كان يسهم في تحريرنا إلى سلطةٍ أو قوةٍ تستعبدنا وهو الموقف الّذي يقترب كثيراً من مقاربة هانس يوناس، فالطّبيعة الّتي كانت موضعاً للتأمّل أصبحت مجالاً للسّيطرة ممّا جعل
الفعل الإنسانيّ (l’agir humain) ينحرف ويتحوّل في جوهره وذلك بإيعازّ من التّقنية الحديثة وإفرازاتها الهائلة، هذه الطّبيعة الّتي كانت قائمةً بذاتها وتعتني بنفسها وبالإنسان في آنٍ واحدٍ، ولم تكُن بمقتضى ذلك موضوعاً للمسئوليّة الإنسانيّة ،أصبحت بفعل أفق المستجدّات الحاصلة في الحقل التّقني ضحيّة،
وهو الواقع الّذي فرض ضرورة التّفكير في وضع أخلاقٍ مختلفةٍ تختلف عن الأخلاق التّقليدية الّتي كانت تعنى بالإنسان فحسب، لأنّ العلم لم يعد محايداً كما اعتقد الوضعيون، والمعنى أنّ نؤسّس أمراً أخلاقياً جديداً يتناسب والنّتائج الّتي تفرزها أفعال الإنسان وتصرّفاته ، أي
" افعل بحيث تتوافق آثار أفعالك مع استمرارية حياةٍ إنسانيةٍ أصيلةٍ على الأرض.."
أي لنا أن نفعل ما شئنا حتّى أن نعرّض حياتنا للخطر شريطة عدم المساس بالإنسانيّة.
لقد صار من الضّروري إعادة النّظر في التطوّر التّكنولوجي بأن يوضع موضع نقاشٍ ومساءلةٍ لأنّه جعلنا نعيش في نوعٍ من العدميّة الّتي ارتبطت بالتّكنولوجيات العلميّة، وبتنا أحوج ما نكُون إلى تأسيس أخلاق مستقبلٍ، باعتبار أنّ وجود الإنسان لا يتعلّق بالماضي والحاضر فحسب، إنّما بوجودٍ يمتدّ نحو المستقبل، وهو مستقبل تحفّه المخاطر من كلّ جانبٍ، خطر الانقراض الكلّي للأنواع وعلى رأسها الإنسان، وخطر استنفاذ الموارد الطّبيعية وتدمير البيئة بفعل النّفايات النّووية، إلى جانب التّلاعب بالجينات..
لقد تمّ استعباد الإنسان داخل فضاء حضارةٍ قامت على أسسٍ مغلوطةٍ مدّعية، تحالف فيها العلم مع التّقنية والصّناعة وجعلته موضوعاً لها، هذه الحضارة الّتي استهدف عقلها الأنواريّ ومشروعها الإنسانويّ الحديث في البداية تحرير الإنسان، فسكنتها إرادة المعرفة من جهةٍ وإرادة الهيمنة من جهةٍ أخرى، والّتي ما فتأت تنحرف لصالح النّمط الاستهلاكيّ الّذي راح يزداد شدّةً وجبروتاً. إنّه السّياق العام الّذي انطلقت منه أطروحة
يوناس، حيث حاول التّأسيس لمفهومٍ للمسؤولية جديدٍ، لأنّها مسؤولية عن المستقبل أي على الأجيال القادمة الّتي نتهدّدها في الحاضر، أو مسؤولية تجاه من لم يوجد بعد، ومنه بعث أخلاقٍ جديدةٍ ينبغي تبنّيها على المستوى السّياسي حتّى تتحوّل إلى فعلٍ وممارسةٍ، هذا الشّعور ينبعث فينا بسبب الهشاشة
(fragilité) وخوفنا المتعاظم على من نحبّكما في وضع الوالدين تجاه المولود الجديد، الّذي يحتاج إلى أن يحيطانه بحبّهما ورعايتهما ، لأنّه بغير ذلك سيكُون كائناً معرّضاً للتّهديد بعدم الوجود، وهي كما يبدُو مسئولية تقُوم على الحاجة بالدّرجة الأولى والالتزام بالواجب وكذلك الشّعور بالذّنب. إّنها في الواقع كما يقُول يوناس مسئولية أنطولوجيّة تجاه فكرة أو مفهوم الإنسان الّتي ينبغي حمايتها ، ومنه تعدُ
الأخلاق اليوناسية عبارة عن
ردّ فعل ملحّ تجاه التّطورات التّكنولوجية الحاصلة.
غير أنّ السّؤال الّذي يفرض نفسه في خاتمة هذه الورقة هو:
إذا كانت الحركات الإيكولوجية الدّاعية للحفاظ على البيئة -وهي تضمّ جماعاتٍ مختلفة الاتّجاهات والأفكار- قد هاجمت التّكنولوجيا،فإنّ أكثرها راديكالية قد هاجمت كلّ جوانب المشروع الحديث الخاصّ بالسّيطرة على الطّبيعة عن طريق العلم، وأوحت بأنّ بوسع الإنسان ان يكون أسعد حالاً لو أنّه كفّ عن تذليل الطّبيعة والتّلاعب بها وتركها وشأنها كما كانت قبل العصر الصّناعي، فغروره أنشأ حلقةً مفرغةً من الاحتياجات الّتي لا يمكن إشباعها إشباعاً حقيقياً أو نهائياً، ومنه:
- - هل يمكنه التّراجع بعدما ذاق لذّة الاستهلاك واستعادة بعضٍ من الاكتفاء الذّاتي؟
- - هل بالإمكان وضع سياسة تحكّم انتقائيّ في التّكنولوجيا بخاصّةٍ وهي مرتبطةٌ اليوم وبشدّةٍ غير معهودةٍ سلفاً باقتصاديات الحرب؟
- -هل يمكن للدولة أن تتدخّل في الفضاء الخاصّ للأفراد وتسهر على الحدّ من تكاثر البشر بمراقبة نسبة المواليد في البلدان المختلفة؟
إنّنا نعيش واقعاً يسُوده ولعٌ مرضيّ بالرّاحة والرّفاه الّذي جعل الإنسان يستنفذ موارد الطّبيعية استجابةً لهذا المنطق الاستهلاكيّ كما قدّمنا، وقد ألحق من جرّاء ذلك أذى بالتّربة والماء والهواء، وهي كما نعلم أصل الثّروات جميعها وكأنّنا نعيش في عالمٍ منفلتٍ لا ضابط له. من هذا المنطلق فإنّ اعتبار الإنسان الغربيّ -على الخصوص- الأرض مجرّد خزّانٍ لا ينضب للطاقات والموارد، هو جريمة في حقّ الأرض والطّبيعة والأجيال القادمة، وتعجيلٌ بالكارثة المفجعة الّتي يسر نحوها، وهو ما يعكس لا محالة تدهوراً أخلاقياً وروحياً في آنٍ واحدٍ، وكأنّ تدهور الأرض هو شرط التّقدم. إنّه نوعٌ من التّضحية القربانية، وعليه يجب أن نربط كلّ تقدّمٍ بأهداف إنسانية من حيث الأولوية، وحده هذا السّلوك يمكنه أن ينقذ الحياة القادمة.
ـــــــــــــــــــ
قائمة المراجع:
1-باللغة العربية:
جعفر عبد الهادي صاحب، حسين البشير أحمد شفشه، الإيكولوجيا أيديولوجية أنصار البيئة، (طرابلس: المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر، 2004)، ط1.
حبيب معلوف، على الحافة، مدخل إلى الفلسفة البيئية، (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي،2002)، ط1.
محمد علي زيادة، البيئة من منظور شامل، (دمياط: مكتبة نانسي، 2006).
كارل ياسبرس، القنبلة الذّرية ومصير الإنسان، ترجمة:كمال يوسف الحاج،(بيروت: منشورات عويدات،1959)، ط1.
ماركوز، الإنسان ذو البعد الواحد، ترجمة: جورج طرابيشي،(بيروت:دار الآداب،2004)، ط4.
برتراند راسل، المجتمع البشري في الأخلاق والسّياسة، ترجمة: عبد الكريم أحمد، مراجعة: حسن محمود، (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية،1960).
راسل، مثل عليا سياسية، ترجمة: سمير عبده، (سوريا: دار دمشق،1979).
راسل، الفرد والسّلطة، ترجمة: شاهر الحمود،(بيروت: دار الطّليعة،1961 )، ط1.
راسل، الحرّية والتّنظيم، ترجمة:عبد الكريم أحمد، مراجعة: محمد بدران،(القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، د.ت).
حنة أرندت، في العنف، ترجمة: إبراهيم العريس، (بيروت: دار الساقي، 1992)، ط 1.
إريك فروم، الخوف من الحرّية، ترجمة: ترجمة: مجاهد عبد المنعم مجاهد، (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1972، ط 1.
2-باللغة الأجنبية:
Encyclopedia Universalis .Dictionnaire de l’Ecologie, (Paris :Editions Albin Michel,2001).
Gilbert Hottois et Jean-Noël Missa. Nouvelle encyclopédie de bioéthique. (Bruxelles : De Boeck Université,2011), matière : écologie.
Raymond Aron. La société industrielle et la guerre,(Paris : Librairie Plon,1959).
Michel Serres. Le contrat naturel.(Paris : Editions Bourin,1990).
Michel Serres. Le Mal propre. Polluer pour s’approprier ? (Paris : Editions le Pommier,2008).
Albert Einstein. Ecrits politiques (vol 6).trad :Jacques Duvernet et autres, textes choisis et présentés par :J.P.Mathieu.(Paris :Editions du Seuil,1991).
Luc Ferry. Dieu ou le sens de la vie, essai.(Paris : Editions Grasset,1996).
Virginie Schoefs. Hans Jonas : écologie et démocratie. (Paris : Editions l’Harmattan,2009).
Hans Jonas.Le principe Responsabilité .Une éthique pour la civilisation technologique .Trad :Jean Greisch ,( Paris : Editions du Cerf ,1995), 3ème édition.
Hans Jonas.Pour une éthique du futur .trad : Sabine Cornille et Philipe Ivernal.
(Paris : Editions Payot et Rivages, 1998).
ليست هناك تعليقات