ليس في وُسع هذا القلب؛ أن يمْتهِن طوال هذه المسافة، رَجُل الإسعاف، أنا أيْضاً تعُضُّني الحياة، تلدغُني العقارِب، ويرمِيني المساءُ بما تبقّى من رصاص النّهار.
جسدِي مثْقُوب كجدار يفصلُ المُستعمرات، أضرُسي مثقُوبة، طقم أسنانٍ معطُوبة كحزامٍ ناسفٍ، أتستّرُ عليه أمام حواجِز الشرطة، أبتلعُ مرارة النّاس، كنبيذٍ فاسد.
كلّ صباحٍ أفتحُ فيه عيْنيّ، أكون ناجياً بالصّدفة من حروبي الفتّاكة، لا وقْت لألبس بيجامة النّعاس، أدخِلُ أطرافي إلى فراشي، بجُهدٍ المُعجزات، رأسي ويدي ورجلي وقلبي وصدري وعطري، قليلٌ من الموْتى كذلك، الأصدقاء الأوفياء للحرْب، زوْجتي، ابنتي، أمِّي، هاتفي، حاسوبي بعض الهدايا القديمة، كأس قهوتي، علبة الأقْلام الملوّنة، جزءٌ مبتثور من صفحة السّماء، قطّتي ودفتراً بعناوين قديمة، جمعتها قبل عشرين سنةٍ، كانت إحْدى هواياتي.
في قريتنا، لم يَكُن متاحاً لمن مثلِي أن يجمعَ الطّوابع البريدية، أو ألبُوم صور المشاهير، أو أن يحتفل بعيد الميلاد، كُنَّا نتسابق في تسلّق جذُوع الأشجار، وفي تجميع الكميات الكثِيرة من أعشابِ القفار، لم يكن سهلا حفظ حتى أسماءها، ما كنّا نعرفه أنّها تصلُح للشاي في جلساتِ الأمّهات عند أفُول الزّوالات.
كُنَّا صغاراً، وكان الوقْتُ ثقيلاً، وكان المساءُ يغرينا ويغرِّر بِنَا بنجومه، كان بإمكان نجمة وحيدةٍ شريدةٍ، أن تهدهدنا وننام بُكوراً.
كبُرنا وفرّقتنا أسواطُ الحياة، فُرادى تعضّنا الحياة، كأنّها تجربُ فينا سمَّها الزّعاف، لا القلبُ انتصر، ولا نحن انْهزمنا لتنتهي الفظاعات.
هلْ مازال بإمْكانك أن تُطيل النّظر في اللاشيْء ساهياً في العدم؟
أنتَ الهُناك الذي ستكُونه، لكنّك عاجزٌ عن الإتيان بالبُرهان، تُرجِعُ إليك يَدَك، لكنّ لا أثر عَلَيْهَا، لا رائحة ولا لون البياض، ولا خُذُوش.
تستلّها وتُعيد السّؤال على غبائك، ماذا يُوجد هناك؟
لا صدَى ولا ظلّ لك، لكنّك أنتَ الهُناك الذي ستكونُ شكلك، وحيدٌ دون ذاكرة، دُون شجرة العائلة، دون حمْضِك النووي.
منك ستخرُج قبيلةٌ أخرى، من صُلبك؛ من هتافِك الأحادي في برارٍ لَيْسَت للنّسل، لو كان آدم ذكياً، لاتّخذ شكل الضوء في عتمة الله، يشعُّ، وكان بإمكانك أن تَكُون سلماً نحو الجنّة، لتحمِل إلى حواء سلّة الفواكه الجافّة، في ليْلتها الأولى قبْل الفاجِعة، لكنّك لم تشأ أن تَكُون عاقا بوالدتِك، منهمِكٌ وحدك في تخزِين ماء المطر، لأنّك تخشى على نعاجك، على شجيراتك اليتيمات، لأنّك لا تأبه لسقُوط آدم.
فكمْ سقطتَ مدوياً دُون أن تتجهّم سماءٌ فوْقك.
أنتَ حزِينٌ، شكلكَ حزين، يفزعُك مصير امرأةٍ ثكلتْك، حزِينٌ لأنّك وحيد، لا أحد في الحانات يعترفُ لك، أنّك قاطفُ عنب الغواية من حقول الدالية، ما جُرحك؛ ما جُرمك؛ هل نسيَ المؤرّخ انزوائك الحزين في زاوية البيْت حين اقتفتْ أمّك أثرك؟
ستكُون شكلك في الهُناك، حتى لو تأخّرتَ.
لا القلبُ انتصر، ولا نحن انْهزمنا لتنتهي الفظاعات.
ليست هناك تعليقات