حيرتني زوجتي.. سمعُها بات ثقيلاً.. لم تعد تفهمني، وتثرثر كلمات لا معنى لها.
أقول لها ان كلامك غير معقول.. ما تقولينه ليس صحيحاً. ولكنها تعيد نفس الجمل بصوت مرتفع ظناً منها أن رفع صوتها سيجعلني أقتنع أخيراً بما تقوله. وللأسف عصبيتها تزداد حتى بات الحديث معها مستحيلاً.
راقبتها أثناء عملها المنزلي. بالتأكيد لديها مشكلة عويصة.. أتحدث إليها ولا تسمعني، هل يكون السببَ مشكلةٌ في سمعها، أم أنها ترفض الحديث معي؟
قلت لها أننا يجب أن نذهب إلى طبيب مختص لفحص سمعها. غضبت مني وثرثرت كلاماً لا رابط بين جمله. فهمت منه ومن إشاراتها أنها تتهمني بأنني أريد أن أجعلها مريضة بالقوة، وأنني أنا مريض في رأسي.. وقد عافت نفسها من تصرفاتي.
سامحها الله. صرت أقلل من الكلام معها حتى لا أربكها.. ولكنها كلما مرّت بي تثرثر بدون صوت، أنظر إليها وأقول: "سامحك الله" وهذا يغضبها لسبب لا أدريه. ومرة لم أعد أصبر. قلت:
- إ كان لديك شيء ضدي قوليه لأسمعه.
فانفجرت بالضحك.
- لم أقل شيئا مضحكاً؟
- ....
- قولي بصوت مرتفع وواضح لأسمعك جيداً.
- ....
فأعطتني ظهرها مفضلة الصمت.
شاورت أولادي حول حالة أمهم.. فضحكوا بشدة. سألت: "ما الداعي للضحك؟" ابني الصغير كان أوقحهم.. قال بصوت قوي جداً مقرباً فمه من أذني:
- المشكلة لديك يا أبي.
- كدت تطرشني، لا تفعل هذا مرة أخرى.
قال الابن البكر:
- سنذهب لزيارة الطبيب.. سأحجز لك دوراً عنده.
- احجز لأمك هي التي لا تسمع.
- حسناً.. أمي ترفض.. سنشاور الطبيب عن طريقة لعلاجها. أنت ستشرح له المشكلة.
- فكرة جيدة
في اليوم الموعود جاء ابني لمرافقتي. عبثاً حاولت إقناع زوجتي لمرافقتنا. ألححّت، فصرخت بأذني:
- الله يساعدني عليك.
- أنت حرة.. نريد اأن نساعدك ولا تريدين أن تساعدي نفسك.
خرجت من المنزل مع ابني البكر الذي لم يتوقف عن الضحك، ربما بسبب عناد أمه ورفضها العلاج.
استقبلنا الطبيب مبتسماً، شرح له ابني مشكلة أمه ولكنه قرر فحصي. لا أعرف كيف سيساعد فحص الزوج في علاج الزوجة؟
أدخلني غرفة زجاج مغلقة، بعد أن أفهمني ابني بأن أرفع إصبعي كلما سمعت صوتاً... وهذا ما فعلته.
عندما انتهى فحصي سألت الطبيب:
- كيف سيساعد هذا الفحص زوجتي؟
ضحك وقال بصوت واضح:
- سيساعدنا على تحديد المشكلة.. ولكن أنت أيضاً لديك مشكلة في السمع.
- ربما.. ولكن المشكلة الصعبة لدى زوجتي.. نادراً ما تسمعني!!
نظر الطبيب مبتسماً إلى ابني، وشاوره قليلاً دون أن أسمعهما، ثم قال لي بصوت واضح:
- أنت ستساعدنا على علاج زوجتك، بما أنها ترفض المجيء للفحص، سنوكلك بإجراء فحص لها.
- حسنا... كيف أفعل ذلك؟
- عندما تكون منشغلة قف خلفها على بعد 6 أمتار. واسألها:" ماذا تفعلين؟". ثم اقتربْ لمسافة أربعة أمتار واسألْ نفس السؤال.. وإذا لم تسمعك اقترب لمسافة متر واحد واسألها نفس السؤال وانتبه.. لا تغير قوة صوتك في الثلاث مرات.. ولنرَ النتيجة..
- فكرة جيدة..
في اليوم التالي كانت تحضّر صينية بطاطا بالدجاج، ومشغولة بإعداد الفطائر لأن أحفادنا سيحْضرون للغداء عندنا.
وقفت على بعد ستة أمتار وسألتها:
- ماذا تفعلين؟
لم تسمعني... اقتربت لمسافة أربعة أمتار وسألتها:
- ماذا تفعلين؟
لم تسمعني... اقتربت لمسافة متر وراء ظهرها وسألتها:
- ماذا تفعلين؟
التفتت إليّ غاضبةً جداً.. ويكاد الشرر يطير من عينيها وصرخت بوجهي بقوة:
- للمرة الثالثة أقول لك صينية بطاطا بالدجاج.
انسحبت بهدوء..
غداً سأخبر الطبيب بنتيجة الفحص!!
************
توضيح للقراء حول فكرة القصة
فكرة القصة تنطلق من مبدأ فلسفي يعتمد الإحساس ضمن نظرية المعرفة، أي أن المعرفة تنطلق من الإحساس الشخصي الموجود كله في فكرنا وان معلوماتنا الوحيدة عن عالمنا هي التي تصلنا عبر حواسنا. أهم فيلسوف لنظرية الإحساس (أو فلسفة الإحساس) كان جورج براكلي الذي عاش في القرن الثامن عشر، وكان مطرانا مسيحيا أيضا.
اكتب هذا التوضيح لأن البعض ظن أني مجرد أروي طرائف.
إن قصصي الساخرة وغير الساخرة، تتناول جوانب الفلسفة بمختلف مدارسها، عبر تخفيف النص الفكري الفلسفي بطرفة مطابقة للفكرة الفلسفية، وهي طريقة كان يتبعها أستاذي السوفييتي للفلسفة (1968 – 1970) ومن وقتها صرت أصنف الطرائف حسب مضمونها الفلسفي، وتبين لي مؤخرا أن أساتذة فلسفة من مختلف أنحاء العالم يتبعون أسلوبا مشابها في تسهيل تفسير الفلسفة ونظرياتها.
الوصول إلى صياغة قصص فلسفية لم يكن ميسرا، بل خضت تجربة طويلة جدا استغرقت عدة سنوات حتى نجحت بالوصول إلى الصيغة السردية المناسبة.. مقتحما نهجا قصصيا جديدا في مسيرتي القصصية.
طبعا هذه القصة تسخر من مبدأ أن لفلسفة الإحساس كقاعدة علمية.. القصة تبين عقم الاعتماد على منطق الإحساس لأن الواقع يختلف عما يحس به الزوج من صمم زوجته. طبعا لا انفي نهائيا دور الإحساس لكن الخطأ أن نجعله القاعدة الوحيدة لحكمنا على الظواهر!!
|
ليست هناك تعليقات