لا شيء أقدر على تحليل ظواهر العنف الدينيّ والفكريّ والسياسيّ من تفكيك بناها الداخلية وتعريتها أمام ضحاياه من الأفراد والجماعات. ومع اندفاع أغلب أو بعض المجتمعات العربية إلى ما يشبه الانتحار الجماعي،
وهي أسيرة منظومات مؤدلجة لم تأخذ حقّها في النّقد والاختبار والتعقّل قبل تبنّيها، تصبح الحفريات في الطبقات المعرفية عند الجماعات المختلفة، التي ترفع من مذهب الإقصاء إلى حدود القتل والإلغاء الجسدي والمعنوي للإنسان،
أمر بالغ الأهمية في تلمّس طريق الخروج من دائرة الانتحار الحضاري، وهو ما نحاول أن نعرض لشيء منه في هذه المقالة من خلال تفكيك العلاقة بين قضيتيّ العنف والتعدّدية السياسية.
يرى مجمع اللغة العربية في "معجمه الوسيط" أن كلمة التعدّدية تعني لغةً: عدم التفرّد، كما تحمل مضامين نفيسة ممثلة في التفاخر والمُعادة، وتتضمّن معنى القدم والاستمرارية. وهي في أصلها تعود إلى فعل "عدَ" وتعني حسب وأحصى.
ويمكن تعريف "التعدّدية" اصطلاحاً بأنها " الاعتراف والسماح لأديان المجتمع وطوائفه ومذاهبه وجماعاته وأحزابه بإظهار عقائدهم وآرائهم وتوجّهاتهم وممارستها والدعوة إليها عن طريق التجمّعات السلمية، من غير إضرار بالآخرين".
أمّا "التعدّدية السياسية" كما تعرفها "موسوعة السياسة"، فهي " مفهوم ليبرالي ينظر إلى المجتمع على أنه متكوّن من روابط سياسية وغير سياسية متعدّدة، ذات مصالح مشروعة متفرّقة. والتعدّد والاختلاف يحول دون تمركز الحكم، ويساعد على تحقيق المشاركة وتوزيع المنافع".
ويقصد بالتعدّدية السياسية تشريع وجود الأحزاب والجماعات السياسية التي من حقّها التعبير عن آرائها ومواقفها السياسية داخل الدولة،
ويعرّفها المفكّر المغربي محمّد عابد الجابري بأنها " مظهر من مظاهر الحداثة السياسية، ونقصد بها أولاً وقبل كل شيء، وجود مجال اجتماعي وفكري يمارس الناس فيه " الحرب " بواسطة السياسة، أي بواسطة الحوار والنقد والاعتراض والأخذ والعطاء، وبالتالي التعايش في إطار من السلم القائم على الحلول الوسطى المُتنامية، والتعدّدية هي وجود صوت أو أصوات أخرى مخالفة لصوت الحاكم ".
وعليه فإن "التعدّدية السياسية" تتضمّن الاعتراف بالتنوّع داخل المجتمع وإمكانية الاختلاف مع ضرورة الاحترام لهذا الاختلاف القائم في العقائد والمصالح والرؤى، والسماح له بالتعبير عن نفسه بحرية وتوفير الظروف التي تتيح له عرض أفكاره وطروحاته السياسية وتفعليها من خلال المشاركة السياسية بكافة مستوياتها وأبعادها.
ولا يجادل أحد بمشروعيّة وأصالة وحق "التعدّدية السياسية" في المجتمعات الحديثة، إلاّ أنّ النقاش ما يزال يدور داخل أروقة الفكر السياسي الإسلامي حول مفهوم التعدّدية السياسية، ومشروعيّتها في المجتمعات المسلمة. شأنها كأية قضية مُثارة، ولم يحصل حولها اتفاق بين المتصدّرين للنظريات السياسية في الإسلام. فما هي وجوه الاستدلال على رفض التعدّدية السياسية أو مشروعيّتها في الإسلام؟
يرى بعض الباحثين من خارج الفضاء الإسلامي أن العقل الإسلامي المعاصر لم يتمكّن من حسم مسألة التعدّدية في الحكم من دون الخروج من دائرة الدليل أو قيد النص، حيث مازال تفسير النصوص محل جدل واختلاف لم يستقرّ بعد على رأي أو توافق. وفي نظر هؤلاء تبدو حجج المعارضين للتعدّدية السياسية داخل منظومة العقل الإسلامي أقوى وأوضح وأشدّ، وهي تمتلك البراهين المختلفة والمتعدّدة بدءاً من النصوص الدينية وصولاً إلى التطبيق العملي تاريخياً في مختلف حقب الحكم الإسلامي.
ويستدل أصحاب الرأي المناهض للتعدّدية السياسية بأدلّة من القرآن والسنّة. مثل قوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ".
(الأنعام:159). وقوله تعالى: "ولا تكونوا من المشركين* من الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون". (سورة الروم:31-32). فالتعدّد رديف التفرقة التي تؤدّي إلى التنازع والشقاق التي نهى الله عنهما بقوله "ولا تنازعـوا فتفشـلوا وتذهب ريحكم واصبروا". (الأنفال:46). في حين حضّ القرآن على الاجتماع بقوله: "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا". (آل عمران:103).
والتعدّدية السياسية، عند الرافضين لها، هي تنافس يورث الحقد والتباغض الناقض لطبيعة العلاقة داخل المجتمع المسلم الذي قال الله فيه "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض".
وإذا كانت التعدّدية السياسية تعني السعي على السلطة وتبادلها بين الأطراف المتنافسـة، فهو أمر مناقض لما هو معهود في فقه الإمامة العظمى. فالإمام يبقى إماماً مالم يتغيّر حالـه بنقص في بدنـه أو جرح في عدالته أو ردّة عن الإسلام
وفي نقد نظرية الحكم الإسلامية، يرى الباحث السوري إحسان طالب أن التوجّه العام في الفكر السياسي الديني منصبّ نحو التوحيد والوحدة وينفر من التعدّد والاختلاف، وهذا منطق شديد البساطة والوضوح فالأصل واحد والمرجع معروف ومحدود والاجتهاد يبقى محصوراً بالمفهوم الأصولي في حدود الفهم الصحيح القائم على الدليل، ومخالفته لا تكون من باب الرأي الآخر بل من نافذة الخروج عن الجماعة".
بدوره ينحو المفكّر المصري عبد الجواد ياسين في كتابه "السلطة في الإسلام " إلى أن العقل الإسلامي التراثي تعامل مع فكرة الاختلاف في الرأي من داخل المفهوم الفقهي للبدعة، "ولأن المذهبية الدينية نشأت أساساً عن اختلاف سياسي في الرأي كان من السهل الخلط بين الرأي السياسي والبدعة الدينية"
وقد ردّ المؤيّدون للتعدّدية السياسية، داخل الفضاء الإسلامي، على جملة هذه الاعتراضات. فالآيات القرآنية التي تنهي عن التفرّق والتنازع وتأمر بالوحدة هي في أمور الدين أو في مورد النص الواضح البيّن الذي لا يحتمل أكثر من تفسير، وليس في القضايا المتعدّدة الوجوه والتفسيرات والرؤى في إدارة المجتمع.
والتعدّد لا يعني بالضرورة التفرّق، فقد اختلف الصحابة في مسائل فرعية كثيرة ولم يضرّهم ذلك شيئاً، واختلفوا في عصر النبي الكريم في بعض القضايا مثل اختلافهم في صلاة العصر في طريقهم إلى بني قريظة، وهي واقعة مشهورة.
والقول بالتعدّدية السياسية لا يُفضي بالضرورة إلى التعصّب لحزب أو سلطة بحق أو باطل، وحال الانتماء لحزب من دون آخر، لا يحدث الشقاق في المجتمع وهو أمر يمكن قياسه على انتماء الفرد المسلم إلى قبيلته او منطقته بما لا يتنافى مع الولاء والانتماء للوطن.
وقد استدل المؤيّدون لجواز التعدّدية السياسية في الدولة الإسلامية أن التعدّدية السياسية هي وسيلة من وسائل السياسة الشرعية التي تهدف إلى تحقيق مصالح العباد وإبعاد المضار عنهم. وهي حالها كحال أية وسيلة أخرى الأصل فيها الإباحة الشرعية ما لم يرد نص صريح على تحريمها. وبما أن التعدّدية تعني توسيع دائرة المشاركة السياسية لتصويب مسار السلطة السياسية فإنها شرط لازم لتحقيق مقصد شرعي،
وهو مبدأ الشورى التي على الأغلب لا يمكن تفعليها في حياتنا المعاصرة إلا من خلال التعدّدية السياسية.
كما أن توفر التعدّدية السياسـية في المجتمعات يمنع الخروج المسلح على الحاكم، ويمنع الاضطرابات والثورات الشعبية التي تزهق فيها الأرواح بما تتيحه من إمكانية المشاركة السياسية للمعارضة الأمر الذي يفضي إلى الاستقرار المجتمعي.
كما تسمح التعدّدية ببروز الأحزاب وتنافسها على نيل رضا الشعب من خلال حماية حقوقه والمناداة بها، كما تحميه من عسف السلطة وجور الحكام. ومن المعلوم أن البديل للتعدّدية السياسية هو النظام الفردي التسلّطي. وإذا كان للتعدّدية بعض العيوب وعليها بعض المآخذ عند الرافضين لها، فإنه لا يمكن مقارنتها بالفردية ونظام الحزب الواحد.
أمّا الباحث العراقي نضير الخزرجي فيذهب إلى دائرة أبعد وأعمق في التدليل على أهمية التعدّدية السياسية كونها جٍبلة طبيعية فطرية، وليست حقاً مكتسباً، حيث يرى أن التعدّد مسألة فطرية وسنّة كونية لا يمكن دفعها عن مسارها. والتعدّد قائم في كل جزئية من جزئيات الحياة والكون من أصغر شيء إلى أكبره. والثبات والصمدية وعدم التعدّد هي من صفات الله تعالى الذاتية، وما دونه يقع التعدّد والتنوّع والاختلاف، فالله جلذ وتعالى ليس محلاً للتفاضل والتسامي، وما دونه يقع فيه التفاضل ودرجات التعدّد والكمال.
والتعدّدية والحرية في الإسلام مكفولتان إذ أن القول بجعلية التعدّد والتنوّع في الكون والإنسان ومجمل الحياة البشرية يقود إلى القول بحتمية الحرية فضلاً عن أصالتها، فالتعدّد أو التنوع يحكم بحرية المرء بفعل أي شيء لا يخالف الشرع أو القانون أو العرف، أي العمل في دائرة حريته الذاتية فرداً كان أو جماعة.
يرى المفكّر المصري محمّد عمارة في كتابه "التعدّدية" أن التعدّدية السياسية هي "قانون التنوّع الإسلامي في إطار الوحدة الإسلامية". وإذا كانت الأحزاب والتيارات السياسية هي اجتهادات متعدّدة في ميادين الإصلاح السياسي، فإن تعدّدية المذاهب الفقهية مثلّت تعدّدية الاجتهادات في ميادين إصلاح المعاملات.
أما راشد الغنوشي فقد ذهب إلى القول "بالتعدّدية السياسية المُطلقة أي غير المُنضبطة بشروط، ولو أدّى الأمر إلى تكوين أحزاب شيوعية أو غيرها. نحن لا نعارض البتّة قيام أية حركة سياسية وإن اختلفت معنا اختلافاً أساسياً جذرياً، بما في ذلك الحزب الشيوعي. وهذا الموقف منطق مبدئي إسلامي أصولي شرعي ".
ولعلّ إعادة النقاش إلى دائرة الضوء حول حقّ الإنسان في الاختلاف السياسي كما حقّه في الاختيار للدين والمعتقد قد يصوّب بوصلة التدافع، ويخفّف من حدّة التوجّهات نحو العنف والاستبداد بشقّيه الدينيّ والسياسيّ، ويُعيد للمجتمع المدني حقّه في لعب دور الناظِم وصمّام الأمان والفاصل الطبيعي بين القوى المختلفة المُتدافِعة على الإمساك بتلالبيب السلطة وتوجيهها في المجتمعات العربية.
المصدر: الميادين نت
ليست هناك تعليقات