لولبيٌّ هو هذا الحزنُ العتيق. عتيقٌ هو هذا الحزنُ اللّولبيُّ. أراهُ يدلفُ منذ بدءِ الزّمان، من سقفِ مغارةٍ لم تُكتشفْ بعدُ. لهُ طعمُ الماءِ الباطنيِّ وحفيفُ مناديلِ الأمّهاتِ وقتَ الوداعِ ورائحةُ الظّلالِ حين يكنِسُها الضّياءْ.
يقولُ لي جدّي، كلّما عادَ إليَّ في شكلِ الصّدى، خارجًا من خوابي الزّيتِ على ظهرِ موّال لا ينتهي: "كن ما تشاءْ،
ولكن لا تكنْ ظلًا لغيرِك، كي لا تُداسَ حين ينتصفُ النّهار، أو تَمَّحي حين ينهمرُ المساءْ.
لا تكُن، يا بنيَّ، ظلًا لغيرِك، كي لا تموتَ كلّما خلعَتْ غيمةٌ فساتينَ شتائِها فوقَ أروقةِ السّماءْ".
ويقولُ لي، كلّما فرَّتْ من عينِيَ دمعةٌ أو مرَّ سربٌ من الطّيورِ فوقَ حجارةِ بيتِه: "واحرصْ أن يكونَ حزنُكَ موسميًّا. فاجعلهُ قمحيًّا في ليالي الصّيفِ، نُحاسيّا في الخريفِ، رماديًّا عند الشّتاءْ،
وورديًّا كلّما طاردَتْ سنونوّةٌ سربَ ذبابٍ في الفضاءْ".
لكنَّ حُزني عتيقٌ. أراهُ كلّما مرَّ قابيلُ في حيِّنا، أو كلّما تبخترَتْ دبّابةٌ على هديلِ حمامةٍ أو نقرَتْ نسورُ الجبال عيونَ المحاربينَ القُدامى أو شقَّ صراخُ يتيمةٍ جسدَ الهواءْ.
وحزني لولبيٌّ، ما يزالُ يصعدُ ثمّ يهوي، ثمَّ يصعدُ ثمّ يهوي، في دورةِ المياهِ الأولى من البحرِ الكبيرِ إلى البحرِ الكبيرِ، من القلبِ إلى القلبِ، منذُ ما قبلَ الابتداءِ إلى ما بعدَ الانتهاءْ.
|
ليست هناك تعليقات