تظن بعض المدارس الفكرية أن ثمة تناقضا بين تمام الإيمان وبين العقل المفكر المبدع.. أو أنه من تمام إيمان المرء أن يجعل عقله تابعا بالكلية.. وأقصد بالمدارس الفكرية هنا مدارس من أديان ومذاهب وحضارات عدة، فمنهم من يحتقر المؤمنين باعتبارهم أصحاب عقول تابعة، ومنهم من ينعي على العقل المفكر المبدع إبداعه بزعم عدم اكتمال الإيمان!
لقد عرض علينا القرآن الكريم نماذج لأنبياء لم يتعارض العقل المبدع المفكر لديهم مع تمام الإيمان والتسليم؛ فهذا إبراهيم عليه السلام "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ (البقرة260) إنه إبراهيم عليه السلام الذي طلب الهداية من الله تبارك وتعالى عبر المنهج العلمي السليم "{وكذلك نُري إبراهيمَ مَلكُوتَ السَّمواتِ والأَرضِ وَلِيكونَ من المُوقنين(75) فلمَّا جَنَّ عليه اللَّيلُ رأى كوكباً قال هذا ربِّي فلمَّا أَفَلَ قال لا أُحبُّ الآفِلِين(76) فلمَّا رأى القمرَ بازِغاً قال هذا ربِّي فلمَّا أَفَلَ قال لَئِن لَمْ يَهدِنِي ربِّي لأَكوننَّ من القومِ الضَّالِّين(77) فلمَّا رأى الشَّمس بازِغةً قال هذا ربِّي هذا أكبرُ فلمَّا أَفَلَت قال يا قومِ إنِّي بريءٌ مِمَّا تُشركون(78) إنِّي وجَّهت وجهيَ للَّذي فطَرَ السَّمواتِ والأَرضَ حنيفاً وما أنا من المشركين(79)}..الأنعام..
والقرآن الكريم يدعو إلى عبادة التفكر في غير موضع من مواضعه، ولا يقصره على التفكر في الخلق والكون وتعاقب الليل والنهار وغيرها من الآيات المبصرة، وإنما يدعو إلى دراسة التاريخ، وأخذ العبرة من مواطن العبر "أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ۖ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ" الروم9.. بل دعا القرآن الكريم إلى التفكر في أحوال النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وبعدها "( أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين ( 184 )الأعراف.. فهو كتاب يدعو إلى التفكر والتدبر والتأمل وإعمال العقل بموضوعية واستقامة.. ولم يربِ النبي صلى الله عليه وسلم أخلص أصحابه رضوان الله عليهم على العقل التابع دائما.. رباهم على العقل الواعي المفكر المبدع.. فهذا هو أبو بكر الصديق أخلص أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأولهم إسلاما، وأعظمهم والأمة إلى قيام الساعة إيمانا، وأكثرهم وأطولهم صحبة لرسول الله وأوثقهم صلة به، هل تحققت له هذه الخصال من خلال عقله التابع أم عقله المفكر المبدع؟!
عندما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قومه عن رحلة الإسراء، وقابل المشركون أبا بكر فسألوه عن خبر تلك الرحلة ساخرين هازئين، فأجابهم جوابا لا ينتجه إلا عقل مبدع قال: "إني أصدقه في أعظم من ذلك في خبر السماء".. فالمسألة محسومة لدى أبي بكر كونه سلم حياته كلها لأمر السماء يبلغها رسول الله عن رب العزة، وكان هذا ردا إبداعيا واعيا لم يسمعه أبو بكر من أحد قبله.. وعندما جاءه عمر رضي الله عنه شاكيا يوم الحديبية من عدم تحقق رؤيا النبي من دخول مكة قال له أبو بكر:"أو قال لك هذا العام؟"، ولم يكن قد سمع تلك الجملة من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد، وإنما هو العقل المفكر المبدع.. إن موقف أبي بكر يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم موقف صاحب العقل الراجح الذي لا يتناول الأمور بالعاطفة الجياشة المجردة، فعندما غشي على الصحابة، وتعرضوا للانهيار بخبر وفاة النبي وقف صامدا بمقولة لم يقلها أحد قبله وإن كان استقاها من قوله تعالى: ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ) آل عمران144.. قال :"من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات.. ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت".. وهذا نتاج إبداع عقلي لا شك فيه.. ثم آلت الخلافة إليه، فأعلن أنه متبع، وليس مبتدعا، ذلك في شأن العقيدة والعبادة، ولكنه في أمور الحياة والحكم والخلافة يأمر بحروب الردة فيقاتل مانعي الزكاة، ثم يدفع بالجيش إلى بدايات الفتوحات الإسلامية "العراق والشام".. وجمع القرآن الكريم؛ لما رأى مصلحة الإسلام في ذلك.. واستخلف عمر رضي الله عنه وهو أمر لم يفعله رسول الله من قبل.. كلها مواقف تدل على عقل مفكر مبدع .. ذلك أن العقل التابع لا يؤتمن على نصيحة؛ لأنه لا يملك الاستقلالية الفكرية للمشورة، ثم هو لا يمكن للقائد تفويضه حيث لا يمكن تفويض من لا ابتكار له ولا إبداع.. وهكذا أخرج النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه قدرة على الإبداع والتطوير، لا عقولا خاملة تابعة لا تملك من أمر نفسها شيئا.. فكم من جندي من جنود الصحابة على ندرة مواقفهم في السيرة- فليسوا من الأعلام- وقف للنبي صلى الله عليه وسلم وقت المعركة يسأله أو يشير عليه.. ولم يكن منهم أحد على عظمة إيمانهم وشدة تعلقهم برسول الله صلى الله عليه وسلم "كالميت بين يدي مغسله".. لم يردهم الإسلام أمواتا، ولم يردهم رسول الله هكذا.. بل على العكس تماما؛ وصف القرآن الكريم أهل النفاق بأنهم "كأنهم خشب مسندة" المنافقون4.. لا روح فيهم ولا عقل!!
العقل التابع لا يجيد سوى تزيين ما هو قائم، والتبرير له، والتهليل لمنتجه؛ لأنه قاصر عن إنتاج جديد مختلف، فمن شاور عقلا تابعا فإنما يخدع نفسه؛ كأنه يشاور نفسه أمام المرآة..
|
ليست هناك تعليقات