منذ ألف سنة وأكثر دُشنت جبهة الصراع بين أمتنا والغرب.. تقدم في المعركة قادة الأمة السياسيون والمثقفون والأدباء والعلماء برؤيتهم الحضارية الخاصة وبمنهجهم العلمي، ولم يكن أمام الغرب الا الانبهار أمام النموذج الحضاري الإسلامي لكنه كان دائم الانطواء على نفسه يصنع أدوات الرد النفسي رغم ان منهجية البحث العلمي والتحليل التجريبي التي حملها علماء الإسلام وجدت سبيلها في نُخب غربية محدودة..
وكانت الأندلس قاعدة الحضارة العربية الإسلامية المتقدمة في مواجهة ظلامات الغرب وتخلفه على أكثر من صعيد.. كانت الأمة في تلك المرحلة التاريخية هي سيدة الكون لا قوة تناهزها شرقا او غربا..
من تلك اللحظة التاريخية حتى سقوط الأندلس كان الشغل الشاغل في هذه القلعة الحضارية ينصبّ على تطوير أداوت الرفاه والإجابة على التساؤلات الوجودية والفلسفية عموما كما كان لشتى العلوم والفنون حضورٌ واسعٌ وصل أثره الى الكنائس ومجالس التفكير في أوروبا حيث كانت الاندلس الإشعاع المعرفي لكل القارة.. فاشتهر الشعر الأندلسي الرائع والموسيقى الراقية وكانت الأندلس وإماراتها تتويجا ماديا فائق القيمة للحضارة العربية الاسلامية.
ولم ينشغل المسلمون بعد موقعة "بلاط الشهداء" بالعمل على توسيع رقعة الجغرافيا، وانكفأوا الى حياضهم يبنون ويتمتعون بما وهبهم الله من نعم ومُتع.. فكانت الخطوة التي انجر عليها سياق بكامله من الدعة والتلهي والتفرق والتنازع والاستنصار بالصليبيين على بعضهم بعضٍ، ومن ثم تلقي الضربات الساحقة من قبل صليبيين أشبعت قلوبهم بحقد سام.. حتى وصل الأمر في نهاية المطاف الى سقوط قلاع الاندلس واحدة تلو الاخرى كان آخرها غرناطة..
هنا اكتملت مرحلة تاريخية واضحة المعالم بدأت من صفين؛ إذ انتصر البعد المادي بمرجعياته الجاهلية في رأس الهرم على حضور الباعث الروحي بمرجعياته الدينية، إلا أن دفع الأمة استمر متماسكا في الفقه والعلوم بأصنافها جميعا دون تراجع حتى سقوط غرناطة في 1492 التي كشفت عجز الأمة على استردادها، بل لتبدأ بعد ذلك رحلة التقهقر والتيه والاجابات الجزئية على التحديات ومحاولات التجديد المحدودة في عقل الأمة وواقعها، إلا أن منحنى السقوط أخذ طريقه الحتمي المؤلم نحو النهايات المدوية بسقوط الأمة كلها تحت نير الاستعمار الغربي الذي توج انتصاراته باقتطاع فلسطين تاج العرب وغرسِ كيان صهيوني غريب عن المنطقة وروحها ليكون قاعدة الهجوم الاستعماري الغربي في المنطقة.
لم تغفل الإدارات الاستعمارية لحظة عن طبيعة الصراع وكانت كلما تقدمت في مجالات الحياة تجد أن تطوير أدوات الصراع وأساليبه أمر ضروري لتحقيق الأمن الاستراتيجي إزاء تخوفات متصاعدة يبعثها في النفوس والعقول استشعار نهوض المارد الاسلامي.
لقد حصلت تحويراتٌ عميقة في الثقافة الغربية التي احدثت انفصاما كاملا عن الكنيسة في ثورة بالغ فيها المفكرون والادباء ورجال العلم والمال.. فأصبح الغرب هيكلا بلا روح، وقد علّب الدين والقيم وجعل الجانب الروحي مهيكلا ماديا منزوع الروح.. وهنا أدرك القادة الاستعماريون السياسيون كما الفكريون أن الأمر أصبح خطيرا حيث ستصبح مجتمعاتهم الخاوية روحيا ونخبهم القلقة عرضة لأفكار الإسلام التوحيدية المتوازنة.. فاقتفى الاستعماريون خطوات الصليبيين مدفوعين بخوفهم التاريخي وبجشعهم نحو ثروات الاخرين وبروح العنصرية فيهم فاحتلوا ديار العرب والمسلمين في محاولة لطمس هويتهم بتجهيلهم ولتهميشهم بتفقيرهم ولإلقائهم خارج حركة الحياة بحرمانهم من أدوات العمل والتكنولوجيا ..وكانت فترات الاستعمار حاملة لكل الشرور ما إن بدأت الأمة تتململ وتنفض عنها ربقة الحيف وأخذت حركات التحرر الوطني تفرض واقعا جديدا مشبوبا بروح وطنية عالية.
عدّل الاستعماريون مخططاتهم بما يتناسب مع تغير ثقافتهم والتغييرات الحاصلة في مجتمعاتهم بعد اندحار سلطان الكنيسة، ومن هنا اشتغل الاستعماريون على محور الانتماء الحضاري فحاولوا من خلال أجهزة الإعلام والدعاية المختلفة المستندة لجهود مستشرقين استعماريين ومن خلال بعثاتهم العلمية والثقافية إلى بلداننا والاتصال بنخب من مجتمعاتنا صناعةَ تيار التغريب في بلداننا وتكريس التجزئة وأحكام الخناق على اقتصادنا الهش.. وإنشاء إسرائيل في القلب من وطننا العربي للقيام بوظائف استراتيجية وأمنية.
بعد أن أنجز الخبراء والمفكرون الغربيون دراساتهم حول المنطقة العربية ووضع المؤرخون مثل رونالد لويس أطروحته لتقسيم المنطقة العربية والتي اُعتمِدت في الكونجرس ووضعت على طاولة البنتاغون لترجمتها الى خطط.. في هذه المرحلة خرج فلاسفة امريكان يتنبأون بـ"نهاية التاريخ" التي جاء بها فوكوياما في عام 1993، وبدات تتشكل عقيدة امنية استراتيجية لدى القادة الغربيين لاسيما الامريكان بضرورة انهاء الخصوم لاسيما الاسلام والعرب.
ودخلنا الفصل الأخير من صراعنا الحضاري وهو تدمير كل ما يرمز لوجودنا الحضاري وتبدأ العملية بتشويه وتفريغ ديننا وتدمير آثارنا من محاولات الهجوم على الأقصى ومساجدنا ومعابدنا ومقابرنا التاريخية.. بل ذهب الأمر إلى أبعد من ذلك حيث يوجهون بقوة لتدمير ثراتنا الحجري كما فعلوا بالعراق وسورية ويشاركهم في التنفيذ مجموعاتٌ سلحوها بافهام سقيمة أنتجتها مختبراتهم التي يشغلها المستشرقون.
وبالفعل ما تبثه أجهزة الإعلام حول التدمير الممنهج لآثارنا التاريخية كما حصل في الموصل بالعراق وتدمر عاصمة مملكة زنوبيا بسوريا واليمن بلاد الملكة بلقيس أرقى نماذج الإنسان الحضاري في المساواة بين المرأة والرجل هذا في الزمن الذي كان فيه الغربيون يعتبرونها نجساً.
لقد قالها وزير الخارجية الأمريكي عندما قابل طارق عزيز وزير خارجية العراق إبان الأزمة بين البلدين: سنعيد العراق الى العصر الحجري.
صحيحٌ أنهم عبر قرون ظهورهم علينا كانوا يعمدون مباشرة كلما دخلوا عاصمة من عواصمنا إلى حرق مكتباتنا كما فعلوا في مصر والجزائر والعراق وسواها من العواصم.. إلا أنهم الآن يشعرون بأنهم إزاء الفصل الأخير فذهبوا إلى كل ما يرمز لنا أننا مررنا بالدنيا.
إن ما يجري في سورية والعراق؛ هذين البلدين اللذين يكتنزان ذاكرتنا الحضارية الأوسع، يعبّر بجلاء عن الإرادة الأمريكية والغربية بإنهاء تاريخنا وشواهده الرمزية بمعنى "نهاية التاريخ".. فلقد تحركت المجموعات المحقونة بسم الحقد لتخريب كل شيء معماري ورمزي بحجج واهية لا علاقة لها بمنطق او دين او منفعة.
الذي لا يعرفه الاستعماريون أننا وإياهم نسير إلى النقطة صفر التي يبدأ منها انبعاثنا الحضاري مرة أخرى لنجدد معالم حضارة إسلامية إنسانية في عالميةٍ جديدة بعد أن أفلس الغرب في عالم القيم والروح فتحوّلت المادة والربح إلها يسومه سوء العذاب.. لم تمت أمتنا ولم تتبخر وهي الآن أكثر قدرة على امتصاص الضربات تبحث بدأب عن سبيل الخلاص وهي تهتدي إلى سبلها بيقين مهما كانت ساعات الليل الحالكة فهي كلما ازدادت حلكة اسستبشرنا ببزوغ خيوط الفجر.. تولانا الله برحمته.
* إن ما يجري في سورية والعراق؛ هذين البلدين اللذين يكتنزان ذاكرتنا الحضارية الأوسع، يعبّر بجلاء عن الإرادة الأمريكية والغربية بإنهاء تاريخنا وشواهده الرمزية بمعنى "نهاية التاريخ".. فلقد تحركت المجموعات المحقونة بسم الحقد لتخريب كل شيء معماري ورمزي بحجج واهية لا علاقة لها بمنطق او دين او منفعة.
* لم تمت أمتنا ولم تتبخر وهي الآن أكثر قدرة على امتصاص الضربات تبحث بدأب عن سبيل الخلاص وهي تهتدي إلى سبلها بيقين مهما كانت ساعات الليل الحالكة فهي كلما ازدادت حلكة اسستبشرنا ببزوغ خيوط الفجر..
ليست هناك تعليقات