أثار خطاب الوداع الذي ألقاه وزير الخارجية الأميركي جون كيري حول الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، عاصفة من الانتقادات من الأوساط ذاتها التي استنكرت امتناع الولايات المتحدة عن التصويت على قرار مجلس الأمن الذي يدين الاستيطان قبل أيام.
انقسم خطاب كيري إلى ثلاثة أجزاء، حيث بدأه كيري بجردة حساب لما فعلته إدارة أوباما لإسرائيل على مدى السنوات الثماني الماضية، وختم بمجموعة مبادئ قال انها يجب ان تشكل الأساس لأى سلام مستقبلي بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
وكان الجزء الأوسط من الخطاب هو الأكبر، وتضمن ادانة لسياسة إسرائيل الاستيطانية في الضفة الغربية والقدس الشرقية، مما جعله البيان الانتقادي الأكثر شمولية لإسرائيل من زعيم سياسي أميركي.
لقد بذلت الإدارات الأميركية المتعاقبة على مدى الخمسين عاماً الماضية قصارى جهدها لتفادي توجيه انتقادات علنية لإسرائيل، فقد عبرت بعض الإدارات عن عدم ارتياحها أو معارضتها للسلوك الإسرائيلي، لكنها كانت – في النهاية – تلجأ الى التحلق والمناشدة أو تقديم الحوافز لإسرائيل للتخلي عن هذا السلوك أو ذاك، ولم يحدث ان عاقبتها، وهذا ما فعله كيري، وهو ما أثار ردود الفعل الغاضبة.
فقد رد عليه رئيس الوزراء الإسرائيلي حتى قبل ان يكمل كيري خطابه، وغرد الرئيس المنتخب معرباً عن عدم ارتياحه، وسارع عدد من أعضاء الكونغرس من الحزبين لاصدار بيانات تأييد لإسرائيل وانتقاد لوزير الخارجية.
هستيريا
فلماذا كل هذه الهستيريا؟ فكما اعترف كيري نفسه، فان الخطاب لن يغير الحقائق على الأرض ولن يجبر إسرائيل على تغيير سلوكها.
ومن الواضح – كما قال ترامب الذي سيتسلم السلطة بعد أسبوعين – ان إسرائيل لن تدفع أي ثمن على صعيد علاقاتها مع الولايات المتحدة.
ولم تعر كل ردود الفعل أي انتباه للجزء الأول والجزء الأخير من خطاب كيري. فقد اعتادت اسرائيل وانصارها على التصرف وكأن المساعدات والدعم اللذين قدمتهما ادارة أوباما، امران مفروغ منهما، وانهم سوف يتجاهلون مبادئ كيري لانهم يدركون انه لا توجد ادنى امكانية لتجسيدها على الأرض.
ولعل اكثر ما اثار عاصفة الغضب حقيقة ان يجرؤ كيري على انتقاد سياسة اسرائيل وبقوة، ففي العادة يكون النهج الذي تتبعه اسرائيل في مثل هذه الظروف، إطلاق حملة ترهيب لدفع الجهة المنتقدة لسياساتها للاستسلام ولردع الآخرين عن اتخاذ مواقف مماثلة.
حاجز ضد السلام
وأتذكر في عام 2003 وقبيل انتخابات الرئاسة الاميركية عام 2004، ألقى السيناتور كيري في المعهد العربي الاميركي خطابا تحدث فيه عن المتاعب اليومية التي يعانيها الفلسطينيون تحت الاحتلال وندد بالجدار الفاصل، واصفا اياه بـ«الحاجز ضد السلام»، فشن أنصار اسرائيل حملة ضده، مما اضطره إلى التراجع والاعتذار عن تصريحاته.
وحدث الشيء ذاته مع القاضي ريتشارد غولدستون، الذي شارك في اعداد التقرير حول الانتهاكات الاسرائيلية لحقوق الانسان والقانون الدولي خلال الهجوم على غزة 2009/2008، لقد قابلت الرجل وسمعته يصف كم من المؤلم كان بالنسبة له أن يرى ما فعله الاسرائيليون، مما دفعه للتنديد باسرائيل، فجاء الرد قاسياً من الدولة العبرية ومن الكونغرس الأميركي.
وقد تعرض غولد ستون للضرب بشكل شائن وحرم من زيارة عائلته في اسرائيل، فاضطر للتراجع وكتب مقالة في صحيفة واشنطن بوست يعتذر فيها عن بعض الكلمات التي استخدمها لوصف السلوك الاسرائيلي، في تلك اللحظة أعلنت اسرائيل انتصارها وأوقفت هجومها عليه.
وفي الصيف الماضي تعرضت وعدداً من زملائي إلى تجربة مماثلة بعد قرار بيرني ساندرز تعييننا في لجنة صياغة برنامج الحزب الديموقراطي، وتعرضنا لمحاولة تشويه سمعتنا واسكاتنا حتى قبل أن تبدأ المداولات، ولكنهم تراجعوا بسبب الموقف الواضح والصارم من حملة كلينتون، ولكن محاولاتنا لإضافة كلمتي «احتلال» و«مستوطنات» باءت بالفشل.
كسر المحرمات
والآن، جاء خطاب كيري، الذي لم يكتف بانتقاد سياسات الاحتلال والاستيطان الاسرائيلية، بل فند الجدليات التي تستخدمها اسرائيل لتبرير افعالها، وتحدث عن الاضرار التي تسببها المستوطنات لقضية السلام، وبالطبع، لن تتأثر اسرائيل كثيراً، ولكن ما قاله كيري – اذا لم يتراجع – سيؤدي إلى كسر أحد المحرمات في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، والمتمثل بالامتناع عن الانتقاد الرسمي العلني لإسرائيل، كما انه يمثل تفنيدا للتبريرات التي تسوقها اسرائيل لسياساتها.
وقد يبدو ما فعله كيري في نظر البعض كالفلسطينيين، شيئا قليلا جداً ومتأخر جداً، ولكن بالنسبة لي كواحد انخرط في محاولات خلق جدل أميركي حول السياسات الاسرائيلية، فإن مداخلة كيري يجب ان تحظى بالترحيب، كونها تثبت حقائق وتضيف المزيد من التمكين للموقف الفلسطيني، فقد أرسى دعائم علامات لمساعدة الليبراليين والتقدميين لوضع اجندة سياسية لحل الصراع الاسرائيلي – الفلسطيني، وهو ما نحتاج إليه بالفعل، مع دخول حقبة ترامب.
د. جيمس زغبي
رئيس المعهد العربي الأميركي في واشنطن.
|
ليست هناك تعليقات