محاولتي هنا لمس جوهر تلك الأيام " الترامبية " في الأيام القليلة التي سبقت انتخاب ترامب كرئيس لأميركا ، يتخللها الخاص بالعام ، لكنها لا تُغفل الحدس السليم الذي أتى في ما بعد من دون أن يُخيبني .
حسناً ، سافرتُ كعادتي مسكونة بقلق الذي يرتحل إلى جغرافيا جديدة . ومع أني دأبتُ على السفر بشكل عام ، وعلى زيارة أميركا بشكل خاص ، إلإ أن القلق يحضر لألف من الأسباب ، كلها قابلة للاختزال عندي في واحدة : " ماذا لو حدث أمر أمني ما ، عكرّ إمكانية عودتي إلى بيروت ؟ ".
حرصتُ على لملمة التفاصيل اليومية كرؤى جزئية تتفوّق على الحقائق ، فأنا في الحقيقة لستُ محلّلة سياسية ولا تتطلّب منيّ الكتابة سوى الكتابة .
كانت البيوت تتزّيا بالأعلام الأميركية وبصوَر ترامب، على جانبي الدرجات الأربع أو الخمس التي تفضي إلى كل بيت . كما كانت إرهاصات " الهالوين " واضحة في تفاوت أحجام " اليقطينات الملونة ، المرشوشة هنا وهناك . " التانكس كيفين " كان حينها على الأبواب ، كما نجحت الحال الميلادية في تملّك حضور مرئي ، على الأقل في واشنطن وبوسطن وسواها ، أو في الأماكن التي أقمت فيها أثناء زيارتي.
أنحيت المفردة الشاعرية التي اعتدتها في كتاباتي ، وشرعت في مراقبة كل شيء بعين عادلة غير منحازة ، لكن في توافق وانسجام مع كل ما يمكن أن يتبدّى للغريب هامشياً ومنسياً ، فالغريب – بالنسبة لي – والهامشي يؤلفان في الحقيقة ، حياتنا نفسها .
النهارات التي شكلت حياتي الوجيزة الأميركية ، كان الفجر فيها حدثاً بقدر ما كان عزاء.
من نافذتي ، الشارع طويل ونظيف، مظلماً لايزال، مبللاً ضارباً إلى الزرقة من حيرة الوقت بين الليل وانبلاج الصباح. حفيف أشجار بفعل هواء خجول تحت سماء موصدة . الصباح طريّ وأنا كما لو في نقاهة إلزامية ، أستعين عليها بأرّق الابتسامات التي أملك واسأل في آن: "ماذا لو استعرت الحرب في بيروت الآن ، وتعذرّت عودتي ؟ يا بنت .. أنت في أميركا الآن ، تمتعي بهذه الإقامة الخضراء قبل أن يأتي ترامب وينعف كل خططك المستقبلية !!
ضئيلة ونحيلة أحتسي النسكافيه وأمام البيت " بارك " طويل عريض ، وأشجار عملاقة وفراشات وكلاب وسناجب وناس تنّزه كلابها – أحدهم ينزّه خمسة كلاب دفعة واحدة مربوطة بحلقات معدنية في أصابعه الخمس - وعند فيض من الماء الساخن والكهرباء عظيمة وكتب وناس تحبينهم ورواق فماذا تريدين بعد؟ لعلّي جلاّدة ذاتي شأن الكثيرين ؟ إنني فحسب شغفة بوطني المريض ، شغفة بالمدن ذات العاهات ، وبقصص الحب الناقصة، بل المستحيلة.
لم استطع إضفاء تصوّر من أيّ نوع ، على الأيام الأميركية التي ستعقب مجيء ترامب. كان كل شيء يؤكّد أن الرجل سيغدو رئيس أميركا على عكس التوقعات التي كنت أسمعها في التلفزة – على الأقل في الأحياء " الراقية " التي حللت فيها – وأحسست بنوع التعاطف الذي يكنّهُ الأميركيون للرجل، إنه حقيقتهم على ما يبدو.
بيروت عشقي الذي يترّحل معي ، بحرها وحده يُلهبُ قلبي ولم يشفني منه المنظر الجميل بل الخلاب هنا ، وكنت رأيته في " نيوبورت " كاشفة المحيط بعينيّ في مدى لا يحّده قرار – لم تشفني زيارة بيت أدغار الن بو في واشنطن ولا بيت والت ويتمان في لونغ آيلاند ، بقيت بيروت تسكنني كبيت وحيد يُشفيني ويدفئني.
إذن، كانت أيام أميركية بامتياز، " ترامبية " على وجه التحديد، فالرجل كان حاضراً أنىّ توجهت، ليس بجسده بالطبع، بل بأطياف لونه الأصهب الذي صبغ الصباحات، والتلفزة ن ومداخل البيوت، والأعلام على السطوح، وفي ذلك البيض المزهّر في الوجوه والأجساد الأميركية المعافاة . قلت أن ترامب وجّه أميركا الحقيقي الذي دارتهُ طويلاً، لونها، لغتها، اختيارها الداخلي ويتجلى تالياً خارجياً ويسطع في العالم.
قلت أن أميركا تختار ترامب هذه المرّة رغم أن الاختيار يُعادي الفكرة التي تشكّل حقيقتها، فهي مساحة استقبال لكل قاصديها – شاهدوا مرة أخرى فيلم مارتن سكورسيزي تحت عنوان guns of newwork: وباختيارها ترامب لهذه المرة، تنفض عنها تكوينها الكوسموبوليتي الأساس بتصويب ترامب على القوميات والجنسيات بحسب شعاراته وتصريحاته ، وهو تصويب على المكوّن الأساس لقيام أميركا، بتعدّدها وتنوّع الثقافات فيها واعتبارها واحة من الفرص لكلّ صاحب حلم وكل طامح إلى إثبات ذاته وقدراته.
في الحقيقة قمت بمحاولة مخلصة للتفلّت من أن هذا " الترامب " يأتي قريباً، ويحكم هذه " الأميركا " . لقد كان ذلك ممكناً بالنسبة لي، فأنا أغادر إلى بلدي بعد أيام، وعليّ الآن أن أعيش بقوة هذه الأيام الأميركية المتبقية بغض النظر عن اختيارات الأميركيين أنفسهم، من دون اعتبار إذا كانت جيّدة أم سيّئة !!
ليست هناك تعليقات