حلت يوم 13 مارس ذكرى ميلاد محمود درويش الذي ولد في ذلك اليوم ، بينما رحل عن دنيانا في 9 أغسطس 2008 .
في أواخر سنة 1969، كنت حينها أدرس في معهد العلوم الاجتماعية في موسكو- الاتحاد السوفييتي آنذاك، وصل لعلمنا أن محمود درويش حصل أخيرا على جواز سفر مؤقت، لمدة سنة واحدة أو أقل قليلا، لمغادرة إسرائيل إلى موسكو، إلى معهدنا. (معهد الأحزاب الشيوعية كما كان يعرف واسمه الرسمي "معهد العلوم الاجتماعية").
كنت في بداياتي الأدبية،. كاتبا مبتدئا تشده رومانتيكية الأدب، كان يومها محمود درويش نجمنا الأدبي الأعلى الذي لا تخلو مهرجاناتنا من قصائده.
كانت قصائد محمود درويش قد بدأت تتحول إلى محفوظات وطنية نرددها، وما زلت أذكر مقاطع عديدة من قصائده التي ألهبت الجماهير في نضالها الشرس سياسات القمع ومصادرة الأرض وتضييق الخناق على القوى الوطنية وضد العزل العنصري وضد نظام الحكم العسكري البغيض المفروض على العرب وحسب قوانينه طبقت سياسات النفي والاقامات الجبرية وتحديد التنقل واثبات الوجود في مراكز الشرطة وهو ما عانى منه محمود درويش والعشرات من رفاقه لسنوات طويلة.
انا أيضا قيدت حرية تنقلي ولم أكن قد تجاوزت سن العشرين، المضحك اني وصلت بتصريح عسكري لمطار اللد (بن غوريون اليوم) وسجل تحت الهدف من الوصول للمطار "السفر للاتحاد السوفييتي فقط" وكأنهم يحددون مكان وجودي خارج إسرائيل أيضا، رغم إني سافرت أولا لقبرص،. وقد سجل في التصريح الطريق التي يجب أن التزم بها للوصول إلى المطار مع ملاحظة تمنعني من الدخول للبلدات في الطريق، ما عدا لمحطات الوقود.
في مثل هذه الظروف نشط محمود درويش وكتب قصائد المقاومة، في مفهوم التحدي للسلطات العنصرية الغاشمة والدفاع عن الحقوق القومية للشعب الفلسطيني من داخل الوطن المنكوب. كانت القصيدة أهم من خطاب سياسي، القصيدة خطاب مجند للنضال،
من هنا أنا على قناعة تامة أن شعرنا المهرجاني الوطني لعب دورا تثقيفيا وسياسيا هاما لا يمكن مقارنته بأي شعر منصات آخر. لذلك حين تقييم هذا الشعر، يجب أن نفهم أن حديثنا عن الشعر الوطني أو المهرجاني التقليدي، له قيمة خاصة في الشعر الفلسطيني الذي كتبه الشعراء العرب الفلسطينيون في إسرائيل. قيمته تتجاوز فنيا أيضا، كل الشعر الشبيه الآخر الذي كان يغرق فيه الشعر العربي.
لم تكن معرفة سابقة شخصية بيني وبين محمود درويش، رغم إننا كنا من نفس الموقع السياسي، كان محررا للمجلة التي اعتبرت فخر ثقافتنا المحلية. مجلة "الجديد" التي تعتبر أيضا من أفضل المجلات الثقافية العربية على الإطلاق.
لا ابالغ بالقول ان مجلة "الجديد" كانت جامعة ثقافية لعشرات المثقفين، وما زلت أعتبر نفسي خريج هذه الجامعة الثقافية، التي لعبت دورا ثقافيا سياسيا هاما في كسر دائرة التجهيل بتراثنا العربي، كسر عزلنا عن الثقافة العربية، وتنشأة جيل جديد من المثقفين بعد النكبة.
كنت أعرفه من المنصات ويعرفني من القصص التي أرسلها للنشر في الجديد،. وقد شعرت بتوتر من لحظة اللقاء مع محمود درويش وانتظرتها قلقا من طول الدقائق،.
وصل محمود درويش إلى موسكو، نقلوه كالعادة إلى "الداتشا" – قصر للنقاهة في الجبال، حيث كانت تجرى الفحوصات الطبية لكل الوافدين للمدرسة الحزبية في موسكو، قبل نقلهم إلى بيت الطلبة وبدء برامج التعليم في المعهد.
ذهبنا، نحن الطلاب ، الرفاق العرب من إسرائيل لزيارة محمود درويش ورفاقه في "الداتشا"، وكانت تلك أول مرة نلتقي وجها لوجه، نتعارف ونتبادل التصافح بالأيدي.
راقبت كل حركات محمود درويش لسبب لا أفهمه، ربما لأفهم العلاقة بين هذا الإنسان الهادئ الوديع، الذي اسمه محمود، له مظهر الإنسان الحالم،. وبين شعره المتفجر بنار الغضب والثورة والجرأة. ربما توقعت ان أرى إنسانا حديديا رهيبا لكلماته فعل الرصاص،. ولكني وجدت إنسانا حلو المعشر، حديثه عذب جذاب، يحب الحياة، يضحك بطلاقة، رقيق لأقصى ما تحمله الرقة والدماثة من معنى. له مظهر حالم كما قلت وربما حتى بعض الحياء.
هذا هو انطباعي الأول عنه.
سألت نفسي وقتها: ترى هل وراء هذا الإنسان الرقيق الهادئ، الذي يرعب دولة إسرائيل، يختبئ أسد متوثب ومرعب؟!
- هل حقا هذا هو محمود الذي سجن وعانى من الاضطهاد، من الحبس المنزلي وتقييد حرية التنقل لدرجة عدم السماح له بزيارة أهله على بعد نصف ساعة سفر من حيفا؟!
- هل هو محمود نفسه، الرافع لراية شعبه، المعبر عن مآسيه، من النكبة حتى مجزرة كفر قاسم الرهيبة (50 ضحية) ومقتل الشباب العرب الخمسة والتنكيل بجثثهم بصورة وحشية وغيرها من مآسينا المتواصلة، مثل مصادرة أراضينا ومنعنا من العودة إلى قرانا المهجرة وتقييد حريتنا بالعمل ؟!
أعرف إن بعض ما أكتبه اليوم يبدو كتابة عن عالم آخر، مساحة الحرية اليوم واسعة جدا، القيود تحطمت، رغم استمرار سياسات التمييز العنصري، إلا إننا أنجزنا بنضالنا مكاسب تبدو اليوم شيئا عاديا لا يحتاج إلى تفكير ونضال. لكن الويل لشعب ما زال مشردا في وطنه وخارج وطنه من الاطمئنان لمنجزاته واعتبارها أمرا لا عودة عنه، لأن القوى الفاشية ما زالت تتحين الفرصة للانقضاض على ما أنجزناه وما حققناه من قامة مرفوعة.
سألت نفسي أيضا:
- هل حقا هو محمود نفسه الذي أطلق عليه شعبنا لقب " شاعر النكبة "؟!
قلت كنت في بداياتي، كان محمود قد بدأ اسمه يسبقه أينما ذهب، كان العالم العربي منبهرا بشعره وشعر زملائه ، وكل ما ينشر تحت اسم الشعر عندنا حتى لو كان بلا معنى ولدرجة تجاوزت المنطق، مما جعله يطلق صرخته الشهيرة وقتها، عبر مجلة الجديد:
" أنقذونا من هذا الحب القاسي".
كأنها كانت نبوءة لخطر العشق العربي بلا منطق لكل ما ينتجه أدبنا المحلي.
شعرت بالرهبة والارتباك وانا بالقرب منه، اسما مبتدئا لا يعرف لغة التودد ولا أعرف أن أبني علاقات على أساس المنفعة الذاتية، أو التعلق بسماجة بالآخرين.
بعد الفحوصات وانتهاء الترتيبات المختلفة، التحق محمود بمعهدنا.
لا أدري كيف ذاب الثلج بيننا، وكيف استقرت العلاقة الفريدة التي جمعتني به في المعهد. لكنها لم تستغرق غير أيام قليلة، حتى استطعت التخلص من ارتباكي والحديث الحر معه،
سحرتني شخصيته بوداعته التي تبلغ حد الطفولة، مع ازدياد معرفتي به، كنت أكتشف أمامي معدنا صلبا نقيا، أنسانا حقيقيا لا تتنازعه الميول الطارئة ولا يبني علاقاته إلا على أساس الاحترام.
قلت اني لا أذكر تماما كيف تطورت علاقتنا، لكن الواضح ان وجودنا في نفس بيت الطلبة، في المعهد نفسه، في نفس طبقة بيت الطلبة وفي فرقة واحدة لا يتعدى أفرادها الثمانية،. جعل المسافة بيننا تتقلص، اللقاء اليومي بدا يولد تفاهما في الذوق والميول وحب الحياة، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني، إلى جانب معرفتي الجيدة نسبيا باللغة الروسية وبالعاصمة موسكو ومطاعمها الجيدة وحدائقها الجميلة وشوارعها وسائر تفاصيلها،.
وقد اكتشفت ان هذا الإنسان الحالم لا يحفظ الشوارع بسهولة، لا يحب التقيد بنظام بيت الطلبة الذي يحدد ساعات بقائنا خارج المنزل حتى الحادية عشرة مثلا، حيث كان الحارس للمبنى يغلق الأبواب ومن يتأخر يواجه مشكلة الدخول، ثم تنبيها وانتقادا من إدارة المعهد، ألخ. في أول سهراتنا بالخارج أخبرت محمودا بهذا التحديد، فرفضه ضاحكا معبر عن أمنيته التي طالت بقضاء سهراته خارج غرفته لساعات الفجر. ففهمت انه يعني أن هذه فرصة العمر، فبعد سنة سيعود إلى حيفا والى الحبس المنزلي بعد غروب الشمس وحتى شروقها، حسب قانون الطوارئ الانتدابي الذي واصلت إسرائيل فرضه على ابرز المناضلين العرب ولتذهب كل التقييدات إلى الجحيم!!
حاولنا ان نحصل على إذن بالبقاء خارج المنزل لوقت أطول، فلم ننجح، فوجدنا طريقة لا يمكن أن تفشل، بإهداء بواب المبني، قنينة فودكا كلما شئنا أن لا نعود في الوقت المحدد،. كنا نعلمه مسبقا، وكان دائما على استعداد للتغاضي عن موعد عودتنا وهكذا نجحنا في التحرر من قيود النظام.
كان جليا أن متعته الكبرى أن لا يعود للمنزل قبل الفجر، كأنه يقهر شرطة إسرائيل بسهراته حتى الفجر هنا في موسكو.
في موسكو التقى محمود درويش بالناقد والمفكر اللبناني حسين مروة، الذي كان يعد رسالة الدكتوراة في نفس المعهد. والذي اعتبر في وقته (1969) محمود درويش
كأبرز شاعر عربي معاصر في مداخلة قدمها في إطار المعهد إمام أساتذة وطلاب المعهد.
التقى محمود درويش في موسكو بعدد من أدباء العربية، بقي في ذهني منهم الكاتب السوري سعيد حورانية، الذي كان يحرر أسبوعية " إنباء موسكو " باللغة العربية، حيث كنت أنشر قصصا ونشر محمود احد قصائده الجديدة التي كتبها في موسكو، أظن انها كانت انتقادا لأنظمة عربية تعاملت معنا كعملاء للصهيونية.
كذلك التقى مع الشاعر السوداني جيلي عبد الرحمن، مع الناشر اللبناني، من دار العودة، محمد سعيد محمدية، مع الأديب اللبناني د. سهيل إدريس صاحب الآداب اللبنانية، مع الكاتب اللبناني محمد دكروب، محرر مجلة "الطريق" اللبنانية وغيرهم تفوتني أسمائهم، وقد حضر بعضهم إلى موسكو بعد انتشار خبر وصول درويش إليها.
قضيت أكثر من نصف سنة مع محمود درويش، في لقاء يومي وأحاديث يومية، للأسف لم أسجل أيا منها، وبعضها كان يتعلق بأدبنا المحلي، مشاكله ومشاكل تطويره، التجديد في الشعر وقد بدأت ألمس من وقتها انطلاقة محمود درويش نحو ما بات يعرف في شعره اليوم بالفضاء الإنساني العالمي، خارجا من مرحلة الشعر الوطني التقليدي، قبلها شعره الغنائي الغزلي ثم الوطني ألمنبري ان صح التعبير وصولا للوطني الإنساني.
بدأت ملامح الفكر الإنساني الشمولي تأخذ مساحة هامة في كتاباته الشعرية الجديدة.
صحيح إني أتحدث عن ذكريات بات عمرها اليوم خمسة عقود، وقد نشرت بعض تفاصيلها قبل عقدين من الزمن، وهي التي اعتمدتها في هذه المراجعة.
في ذكرياتي عن لقائي بمحمود درويش في موسكو تختلط أمور كثيرة، هناك ما أعتبره من المسائل الذاتية جدا التي لا أحب الخوض فيها.
عندما سمعت، بعد عودتي بشهر أو أكثر محمود درويش يعلن عبر إذاعة القاهرة (1970) انتقاله لموقع آخر، حزنت وفرحت في الوقت نفسه.
حزنت لفقداننا هذا الركن الهام في شعرنا المحلي وفرحت لانطلاقة النسر من أسره. في الوقت نفسه لم أتفاجأ من خطوته، ربما يصعب علي تفسير ذلك ولن أحاول تفسير خطوته التي لم تفاجئني، لأنها قد تحمل الكثير من باب التأويل، هذا لا أحب التطرق إليه، لأني إذا لمست بعضه، فذلك بسبب قربي الشخصي من محمود في تلك الفترة. بلا شك ان وجود محمود درويش في نفس المعهد وما أثاره وصوله إلى موسكو في وقته من اهتمام واسع، حفزني على المزيد من الإبداع، من جعل الإبداع، الفكر والنشاط الثقافي عامة مبدأ ومنهجا لحياتي. كان الطلاب العرب يتساءلون عن مكان درويش في موسكو، وكثيرا ما عرفوه في الشوارع ونادوه باسمه ليحيوه بحب وتقدير ما رأيت مثله في حياتي.
الانعكاس الأساسي علي انه جعلني أفهم الأدب كالتزام واع بقضايا الناس وتطلعاتهم وان الوطني حقا هو إنساني بالمقام الأول أيضا.
اليوم حين أنظر لخارطة العالم الثقافية، ارى المكانة المرموقة لمحمود درويش، دوره الطليعي في خريطة الشعر العربي واسمه الذي صار عنوانا لقضية وطنية وإنسانية في نفس الوقت.
محمود درويش هو سنديانتا الشعرية، حلمنا ونموذجنا الأعلى،.
أشعر كم سنبقى مقصرين، بحق الإنسان والشاعر، المتألم لآلام شعبه، الذي ترك في نفس كل واحد منا شيئا من ذاته، شيئا من طهارته، شيئا من إنسانيته وشيئا من تحديه.
سيبقى محمود درويش علامة فاصلة لشعرنا، لثقافتنا، لإنسانيتنا ولقدرتنا على مواصلة الإبداع، مواصلة التحدي والنضال لتحقيق الحلم الكبير لمحمود ولشعب محمود، بإقامة دولة فلسطين الديمقراطية المستقلة، بيتا دافئا للشعب الفلسطيني، يكفي فخرا لشعب فلسطين شاعرهم القومي الإنساني، الذي صار اسمه مرادفا لما هو جميل وراق في الأدب العربي والعالمي كله.
|
ليست هناك تعليقات