(1)
يا أنتِ، أيّتُها السّاكنةُ في أُفُقٍ هاربٍ من خطوَتِي، ما السَّبيلُ إلى قطفِ الرّيحِ عن شجرِكِ الباسقِ؟
ففي كلِّ مرَّةٍ أتسلَّقُ الجبالَ أعثُرُ على نقشٍ يؤرِّخُ نفحةَ عطرِكِ القديمِ وشكلَ الغياب. وكلّما سافرتُ إلى الرّبيعِ يداهمُني
الصّيْفُ بالجمرِ والخريفُ بالعُرْيِ الرّفيع. وعندما أهبطُ إلى الوادي تُدثِّرُني أكوام ُالظِّلالِ وأنفاسُ الضّباب. وحينَما
أغوصُ في الماءِ، يُشقِّقُ شفتيَّ السَّرابُ والملح.
فما أنتِ، أيّتها السّاحرةُ التي تتعانقُ على خصرِك الجبالُ والسَّماء؟
سأقولُ أحيانًا: أنتِ، في مواسم الفَرحِ النّحيفِ، ثغُرٌ للصّباح.
وأقولُ: أنتِ، عند أحزانِ المغيبِ، زهرةُ أُرجُوان.
وأقول: أنتِ، في سائرِ الأحوال، غيابٌ حاضرٌ بكلّ التّفاصيل.
وها أنا أركضُ، منذ بدايةِ الوقتِ، كي أمسكَ ذيلَ فستانِك المُزيَّنِ بالشّوكِ المُعسَّلِ والأماني.
لكنِ الآن، الآن فقط، أدركُ أنك تسكُنين ها هُنا، في صوتيَ المفلُولِ، مثلَ خيطٍ قديم ما يزالُ يطيرُ بعيدًا بعيدًا، من ثُقبِ
ناي.
الآن أدركُ، أيّتُها المُحالُ الماثلُ في يديَّ ، أنّه لا يفِلُّ الوهمَ الجميلَ سوى الوهمِ الجميل.
(2)
لم يبقَ منها سوى الوشمِ، جدَّتي التي ضاعَت في الطّريقِ إلى فَمِ الذّئب.
عندما خرجَ الرّجال ولم يعودوا، رأيتُها تُدثّرُ الحَسْرةَ بدمعةٍ.
ورأيتُها تحفِنُ من موقدِ الشّمسِ رمادًا للشّتاء.
رأيتُها تُخيطُ من تجاعيدِها حكايةَ الخروجِ من الجنّة.
رأيتُها، في الفواجعِ، تحيكُ تهليلةً للسَّريرِ اليَتيم.
ورأيتُها كلّما اكتنزَت باذنجانةٌ، تشعلُ القرابينَ عُرسًا على أبواب المدينة، وكلّما راقصَ عنقودٌ جفنةً على كتفِ البيتِ، تسكبُ
النَّبيذَ على وجهِ القِباب.
لكنَّ جدّتي راحت وَلَمْ تعُدْ؛
لَمْ يبقَ منها سوى وشمٍ بلونِ عشبِ البحرِ،
يلوحُ في أطرافِ ذاكرتي،
في محيطِ ساعةٍ
مُعلَّقةٍ على غُبار.
(3)
للغيابِ لونُ العَثِّ، يا أَبَتي.
للغيابِ شكلُ خيطِ العنكبوت.
للغيابِ طعمُ الشّتاءاتِ الماطرة.
للغيابِ رائحةُ الحروفِ المسماريّة، على جدارٍ مائلٍ.
للغيابِ مسحةُ راحةٍ على وجهِ نسمةٍ هاربة.
للغيابِ حضورٌ في الزّحام.
لحضورِكَ زحمةٌ في الغِياب.
ولي أنا غيابٌ كثيفٌ،
حاضرٌ في ثناياك،
كلَّما أمعنْتَ في المضيِّ إلى البعيد.
ليست هناك تعليقات