إنّه هو؛ ما يزالُ يرتدي سروالَهُ الورديَّ وقميصَهُ الزّهريّ ويصعدُ إلى السَّاحات.
هو الفَرَحُ إيّاه، الذي زيّنَ خدودَ بابلَ بأرجوانِ بَحْرِ صيْدا، وزركشَ قلاعَ مُلوكِ الفُرسِ بفضَّةِ جِبالِ القَفقاس، وطرّزَ الشّهقاتِ على بناتِ نشيدِ الإنشادِ، وكحّلَ رموشَ ظبيةٍ عندَ ماءِ الفُراتِ، وطلَى عرباتِ الفراعنةِ بذهبِ الحقولِ والخَيال، وأشعلَ الدِّماءَ في مُدرَّجات روما، وأزهرَ شقائقَ نعمان ونبيذًا أحمرَ على شفاهِ صبايا ديونيسيوس.
هو الفرَحُ إيّاه؛ كانَ يمحو الغُضونَ ويزرعُ الغمّازات ويفتحُ شِفاهَ الأطفال عن سِنّيْنِ ضاحِكَيْنِ وكركراتِ فِراخِ العَصافير. لكنّهُ فقدَ ساقيْهِ في الحربِ الأخيرة، فصار يكسِرُ إيقاعَ الرَّقص. وفقدَ بصرَه في حربٍ سابقةٍ، فصار يصخبُ في كلِّ الجنازات. وفقدَ سمعَهُ منذُ أنْ سقطَتْ عبوةٌ ناسفةٌ في صحنيِّ أُذُنيْهِ، فصارَ يطرَبُ لموتوراتِ الحَطَب. واحترقَ شعرُهُ في نارِ الخُطَبِ الحماسيّةِ، فصارَ يُسرِّحُ صلعتَهُ المُثلى في بوتيكاتِ التّجميل. وهوَ أبكمُ منذُ أنْ أكلَ الفقراء لسانَهُ، حين جاعوا في الطُّرقِ إلى مُدُنِ الرَّبّ.
لكنّه ما يزالُ يرتدي سروالَه الورديّ وقميصَهُ الزّهريّ ويصعدُ إلى التّقاويم المتناسلة. لا يطرقُ الأبوابَ لأنّ يدَيْهِ ضاعَتا في الطّريقِ الطّويل إلى معادنِ الأرض. ونسيَ عِطْرَ التّوابلِ الخارجِ من مسامات الجميلاتِ، منذُ أن انسدَّ منخراهُ بحواجزِ الإسمنت، فلم يعُد أمامَه سوى الصُّعودِ بقدمين بَيونِيَّتَيْن إلى ساحاتِ الفُرجة.
إنّه هُوَ هو، الفَرَحُ القديم إيّاه.
يأتي كلَّ يوم، مع تهافُتِ التَّفاهةِ؛ يقفزُ تحتَ القِبابِ النّاريّة ويصعدُ إلى السَّاحاتِ العامَّة. هُناكَ يملأُ الرُّوزنامةَ بالأعيادِ الكربونيّةِ حتّى ثمالةِ الدّقيقةِ الأخيرةِ في السّنةِ الكبيسة، يأكلُ ساندويشًا من الهواءِ المُلوَّثِ، يدهنُ بمسحوقِ "الكاتشوبْ" شفاهَ الدُّمى في الواجهاتِ المنصوبةِ في الجِدار، يرسمُ ضحكةَ البهلوانِ على وجوهِ الجَماهير المُتراصّةِ، وينزوي في زاويةٍ بلا ضَوء.
هناك، في الزّاوية الهاربةِ مِنَ الأضواء، يخلعُ خِرَقَهُ الورديّةَ والزّهريّة ويبكي،
يبكي بكاءً مُرًّا، بلا عينَيْنِ ولا منديلٍ ولا دُموع.
ليست هناك تعليقات