لقد ثبت تاريخيا أن الثورة على الأنظمة القائمة محفوفة بالمخاطر فإما أن تكون بطلا في حالة النجاح وإما أن تكوم مجرما وتشنق في الساحات.
فلا وجود لمنزلة بين المنزلتين لكن التاريخ المعاصر أتى بما يفيد أنه يمكن أن تتحقق الثورات بالنصف أو بالربع أو بالسدس وذلك لسقوط رأس النظام وبقاء جثته قائمة تتحكم في المشهد من خلف الستار وتجذب للوراء وكأن شيئا لم يحدث
فالثوريون الحقيقيون لم يتسلموا السلطة عندما كانت على قارعة الطريق تخطب ود من يطلب يدها المخضبة بدماء الشهداء وصدقوا كلام النخب التي ترعرعت بين أحضان النظام السابق وتركوا لها المقود لعلها تنير لهم الطريق وهم الشباب القليل الخبرة وقد انخدعوا بما قامت به من مناورات شكلية واستعراضية فكانت ثقتهم في غير محلها
فكل الفئات التي ركبت على الثورة انحازت في النهاية لمصالحها وتواطأت مع السلط القائمة للمحافظة على الغنائم التي تحصلت عليها زمن المخلوع بل زادت في تحصينها بالقوانين من خلال تواجدها بالمجلس الوطني التأسيسي الذي لم يحقق الأهداف الحقيقية للثورة ولم يعط الانطباع بأنه يعيش حالة ثورية
وهكذا تحولت الثورة من البدايات الواعدة إلى حالة من النكوص للوراء والشعور بالإحباط الشعبي الواسع حتى وصل الأمر للنتائج الكارثية التي نعيشها اليوم ولا نرى ضوء في آخر الطريق. وهكذا تحولت أحلام الطبقات الكادحة والفقيرة والمهمشة إلى أضغاث أحلام وخيبة قاسية
كما غابت محاسبة المفسدين عمدا وتم تعطيل العدالة الانتقالية وإنصاف الجهات المحرومة فعادت رويدا رويدا النعاج السمينة تثغو وتمرح في حقول الشعير والبيدر وتتلهى بعذابات الشهداء وجراحهم وتطالبهم بالنسيان والاعتذار على تمردهم على سيدهم الهارب.
وكل هذا كان متوقعا لأن الثورة مع الأسف الشديد لم تكن لها قيادة وتنظيما وبرنامجا لتسلم السلطة عندما حان وقت الجد بعد الفراغ الذي حدث بهروب الرئيس السابق وربما حدث عمل استباقي حتى لا يصل الثوريون الحقيقيون لأعلى هرم السلطة
فلعبة المصالح طغت على المشهد بحيث ضاعت حقوق المستضعفين والمظلومين بين محترفي السياسة والدجل العقيم وتناست النخب الحاكمة بعد تمتعها بالكراسي ونعيم المناصب الثوريين الذين ضحوا بحياتهم وخاطروا بأرواحهم وانتفضوا ضد الحاكم الظالم والفاسد وأجبروه في النهاية على الهروب
وهكذا تم التعويم والتمطيط في قضايا الشهداء وجرحى الثورة والتراخي في تحقيق العدالة الانتقالية ومقاومة الفساد ظنا منهم أن الحالة الثورية ستضمحل وتندمل الجروح سريعا ويعود الوضع إلى حالته قبل الثورة مما مكن أهل الردة والفساد وحيتان العهد الماضي من الرجوع بقوة للساحة وقد تم تبييض ماضيهم الأسود
فنظرية تبريد الحالة الثورية واللعب على عامل الوقت للنسيان بدأت تفعل مفعولها دون تحقيق أي هدف من أهداف الثورة وقد كان من الأجدى منذ الفترة الأولى التوجه نحو معرفة الحقيقة والمحاسبة ثم المصالحة لكن عوض هذا التمشي دخلت البلاد عن قصد ممنهج في لعبة عض الأصابع بين الفرقاء السياسيين والأحزاب فضاعت أحلام المهمشين والباحثين عن الحرية والعدالة في وحل السياسة والتجاذبات
وقد وصلنا الآن نتيجة ذلك إلى مفترق طرق على مشارف دولة مفلسة منتهية الصلاحية يعشش فيها الفساد المعمم وتطل من شقوق خربها الخفافيش مصاصة الدماء والديون تحاصرها من كل صوب والغريب أن الحكومات المتعاقبة منذ الثورة لم تفعل شيئا غير تنصيب أنصارها وتبذير موارد الدولة وإضعاف هيبتها ثم التباكي على الحالة التي وصلت إليها البلاد ورمي التهم جزافا على المعارضة والاحتجاجات والمطالب الشعبية
وبما أن ما بالطبع لا يتغير فلا أحد يستطيع تحمل مسؤولية الفشل حتى وإن كان الأمر بينا وجليا وتلك عادة لا تتغير عند العرب وفي خضم هذا الوضع الرديء تنمو الإشاعات والدسائس والصفقات على حساب الذي ضحوا بأنفسهم واستشهدوا في سبيل أهداف سامية ترفع من قيمة الوطن وكان ظنهم في غير محله لأن النخب الحاكمة اهتمت بمصالحها الضيقة وتاهت عن الطريق الصحيح
ليست هناك تعليقات