«الاستقصاء» أحد أبرز مؤشرات مرحلة التطور الإعلامي الجديد بصيغه المهنية الطباعية والتلفازية والإلكترونية في المرحلة الراهنة، ولا سيما في منطقتنا العربية، والعراق على وجه الدقة، وهو بطبيعة الحال ليس حديث عهد في البلدان المتقدمة،
وربما يتعلق الأمر هذا بتأخر بلوغ مؤسسات الفن الصحفي من كليات ومعاهد الإعلام في منطقتنا العربية زمنا طويلا في بلورة رسالتها المهنية بصيغها المتقدمة، وكذلك تأخر مؤسساتنا الحكومية وغير الحكومية من بلوغ مرحلة ممارسة السلوك المنحرف بالتعامل بالرشوة واستغلال الإدارة، وارتكاب الجريمة بطرق وآليات فنية وبخطوات احتيالية يصعب على الصحافة التقليدية معالجتها بآلياتها السابقة، والحد منها وكشف خيوطها لإنصاف المظلومين والأغلبية الساحقة من الفقراء والمعدمين من وطأتها.
وبمقابل هذا فإن تقدم الغرب علينا بخطوات وممارسات هذا الفن الاستقصائي، يرجع إلى شيوع الحالة غير السوية في التفنن بارتكاب الجريمة والفساد منذ عقود عدة مضت، ويجب تشخيص حالة مجتمعاتنا العربية وما يجاورها بأنه مهما كانت فاسدة فإن هناك مؤشرات تدل على أن الغرب أسهم بإفسادها واستهدف جزءا من سلوك إنسانها المهذب عندما أشاع ثقافة العولمة،
فأصبحنا جميعا نمارس ذلك السلوك بدرجة (المارد والعفريت) فاستدعى الأمر أن نخوض تجربة الممارسة الاستقصائية، وأن ندرجها ضمن مناهج كليات الإعلام، ونخصص لها مجالا في غرف التحقيقات الصحفية في المؤسسات الصحفية،
ورصد ميزانية مالية لسد نفقات مشروعاتها أو تحقيقاتها التي تتطلب مزيدا من الجهد والمصادر والمال والاستشارات الفنية والقانونية، يرافق ذلك مزيدا من الخوف والمهنية والمهارات والإبداعات، وقد يتطلب الأمر تقمص دور صاحب حرفة معينة قد يكون حمالا أو عاملا أو شرطيا أو سكرتيرا أو عتالا كجزء من الممارسة المهنية بصيغها الإنسانية من أجل البحث عن الحقيقة وإعادة الحق إلى أصحابه من الأغلبية الساحقة من فقراء المجتمع الذين هم أمانة في أعناق زملاء مهنة الصحافة.
فالغرب نجح في تضليل عقولنا باتجاه الإفساد وإشاعة ثقافة الفساد، ولكننا اليوم ينبغي ان نرد عليهم بالتحلي بسلوكنا الحقيقي عندما نحارب أصحاب الجريمة والفساد ونحد من وتيرتها بعد أن أخذت تضغط كثيرا في زمن الفوضى، وان نردع الفاسد والمجرم،
وهذا باعتقادي سيتحقق لطالما ان كثيرا من زملاء المهنة في المؤسسات الصحفية، وكذلك طلاب كليات وأقسام الإعلام وهم على مقاعد الدراسة يمارسون بعشق فن الصحافة الاستقصائية وينتجون صحفا ورقية ورقمية ذات أبعاد مهنية وإنسانية، فلا شك أن الغد حتما سيكون أفضل والأمل معقود على جهود الجميع، ولكننا بقدر ما نستهدف تطوير آليات عمل الصحافة الاستقصائية مهنيا، نبغي أيضا إعادة بناء الإنسان وتحصينه فكريا بعيدا عن الضياع الذي يجسد واقع حال الأمة، وهذه أفضل إجابة على من يطرح سؤاله علينا لماذا الاستقصاء؟
*أكاديمي وإعلامي عراقي
|
ليست هناك تعليقات