أخبار الموقع

اهــــــــلا و سهــــــــلا بــــــكم فــــــي موقع مجلة منبر الفكر ... هنا منبر ختَم شهادةَ البقاءِ ببصمةٍ تحاكي شَكلَ الوعودِ، وفكرةٍ طوّت الخيالَ واستقرتْ في القلوبِ حقيقةً وصدقاً " اتصل بنا "

« 115 عامًا على رحيل "خنساء العصر"عائشة التيمورية »


115 عامًا على رحيل "خنساء العصر"عائشة التيمورية.. فقدت ابنتها ليلة زواجها وهاجمت قاسم أمين بسبب "الحجاب"


جعلت مرآتي جبين دفاتري..وجعلت من نقش المداد خضابى"..
صرخة امرأة أحدث وجودها ثورة أدبية في القرن التاسع عشر..فأي امرأة تلك التي ارتضت أن تكون مرآة الفتاة جبين الدفاتر، وأنامل الأنثى مُخضبة بحبر الأقلام ؟، لقد سابقت الرجال فسبقتهم إلى عالم الإبداع، وألقت بدلوها فكتبت المسرحيات والروايات والقصص القصيرة، إنها عائشة التيمورية "خنساء العصر الحديث"، ورأس العائلة الأدبية الأعرق في تاريخ مصر، والتي واكب يوم الثلاثاء الماضي  115  عامًا على رحيلها.

ولدت عائشة التيمورية عام 1840، في الشطر الأخير من عهد محمد على باشا "مؤسس مصر الحديثة"، وبين جنبات منطقة "درب سعادة" بحي الدرب الأحمر، حيث كانت تلك المنطقة مقرًا للطبقة الأرستقراطية ولعائلاتها العريقة درجت في قصر أبيها إسماعيل باشا تيمور، الأديب والسياسي إسماعيل باشا تيمور، رئيس القلم الإفرنجي في الديوان الخديوي "وهو ما يعادل منصب وزير الخارجية في ذلك الوقت"، قبل أن يتولى رئاسة الديوان.

وفى عصر لا يُعطى للمرأة حقًا سوى البقاء في "ركن الحريم"، لا دور لها سوى حياكة الملابس وضرب المعازف، أرادت عائشة أن تتخطى أسوار الجهل، وترفع عن نفسها حجاب التقاليد العتيقة، لكن الطفلة المتمردة، أبت إلا أن تكون رائدة منذ نعومة أظفارها، وكانت أول من قاومت رغباتها التنويرية نحو القراءة والكتابة والدتها "ماهيتاب هانم"، لكن والدها تفهم ميولها الأدبية، فوفر لها المعلمون الذين عكفوا على تحفيظها للقرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة، ورواية عيون الشعر العربي، مرورا بعلوم اللغة كالنحو والعروض، وصولا لإتقانها عددًا من اللغات الأخرى كالفارسية والتركية، وهكذا تحررت التيمورية من ضيق قيود "الحرملك" التي عاشت فيه بنات عصرها إلى رحابة الفكر والنور.

تزوجت عائشة التيمورية في الرابعة عشرة من عمرها، لكن مسئوليات الزواج لم تقف عائقًا أمام شغفها بقراءة الكتب ونظم الأشعار، وبعد وفاة والدها إسماعيل باشا تيمور، تولت عائشة مهمة تربية شقيقها الأصغر أحمد تيمور، الذي يصغرها بنحو ثلاثين عاما، فجعلت منه علاّمة في الأدب، وحجة في اللغة العربية وتاريخها، وأحد رواد النهضة الأدبية في العصر الحديث حتى بلغت شهرة مؤلفاته أفاق العالمين العربي والإسلامي.

ومثلما تعهدت أخاها أحمد تيمور بالرعاية الأدبية، تكفلت كذلك بالإشراف على نجليه محمد ومحمود تيمور، فجعلت من الأول رائدا للكتابة المسرحية وصاحبا لأول قصة قصيرة في أدبنا العربي، قبل أن يكمل شقيقه محمود وضع أسس الكتابة القصصية نظرا لوفاة شقيقه المباغتة فى ريعان شبابه.

الموت الذي سلب من عائشة التيمورية ابنتها توحيدة قبل زفافها بأيام، وقيل بل يوم الزفاف نفسه، كان كفيلاً بأن يُخرجها من هناء العيش فى "درب سعادة" لتموت أسيرة في قصور أحزانها، فخرجت قصائدها جريحة حزينة، فأبكت القلوب والعيون على وقع رثائها، لتنال لقب "خنساء العصر الحديث"، ولعل من أشهر قصائدها الرثائية تلك القصيدة "الرائية" المبكية التي نسجتها على شكل حوار بينها وبين ابنتها:

  • أماهُ قد عز اللقاء وفي غدً .. سترين نعشي كالعروس يسيرُ
  • وسينتهي المسعى إلى اللحد الذي... هو منزلي وله الجموع تصيرُ
  • قولي لرب اللحد رفقا بابنتي.. جاءت عروسا ساقها التقديرُ
  • صوني جهـاز العُرس تذكارا فلقد كان منه إلى الزفاف سرورُ
  • أماهُ لا تنسي بحق بنوتي .. قبري لئلا يحزن المقبورُ
  • فأجبتها والدمع يحبس منطقي.. والدهر من بعد الجوار يجورُ
  • لا توصي ثكلى قد أذاب فؤادها.. حزنٌ عليك وحسرة وزفيرُ
  • أبكيك حتى نلتقي في جنة .. برياض الخلد زينتها الحور
  • قلبي وجفني واللسان وخالقي .. راضٍ وباكٍ شاكر وغفورُ
  • مُتعتِ بالرضوان في خُلد الرضا .. ما ازينت لك غرفة وقصور

لقد كان رحيل ابنتها توحيدة، قاسمة الظهر بالنسبة للتيمورية، فعلى مدى سبع سنوات لم تكف عن البكاء حتى رمدت عينها وضعف بصرها، وأفضى بها الحزن إلى مرض نادر بالمخ حار معه الأطباء، لكنها ظلت مواظبة على قراءة القرآن الذي نزل بردا وسلاما عليها مهونا مرارة الفقد.

لكن النتاج الأدبي والشعري للتيمورية، كان كبيرًا ومتنوعًا بين الأشعار والرسائل والروايات، فتركت ديوان "حلية الطراز" باللغة العربية، وضمنته قصائدها التي تجمع بين رقة المشاعر وحلاوة النظم ورصانة اللغة، وتناولت فيه الاجتماعيات والغزل والحكمة وقضايا المرآة، فضلا عن مراثيها في نجلتها، وديوان "الأشقوفة" باللغة الفارسية، تضمن خواطرها وتأملاتها الفلسفية فى الحياة، ورسالة "نتائج الأحوال فى الأقوال والأفعال" وهى رسالة مطولة طُبعت في القاهرة والأستانة وإيران، تحدثت فيها عن أساليب مناصرة المرأة، أما مسرحية "اللقاء بعد الشتات" فهي تعد أولى المسرحيات التي كتبت للمسرح المصري، لتحقق التيمورية لنفسها الريادة في هذا المضمار الأدبي، وتميزت عائشة بالأسلوب السلس والحوار الجيد والبناء الدرامي السليم.

نشرت عائشة في جريدة الآداب والمؤيد عددا من المقالات عارضت فيها آراء قاسم أمين ودعوته إلى السفور، لم تستسلم التيمورية طيلة حياتها للقيود، منذ أن أصرت فى طفولتها على الخروج من "حجاب الجهل"، ولكنها دافعت عن "حجاب المرأة" أيما دفاع، فعفاف المرآة لديها لا يرتبط بوضع الحجاب أو نزعه، وقالت في ذلك شعرا:
بيد العفافِ أصونُ عز حجابي.. وبعصمتي أسمو على أترابـي
وفى مثل يوم الثاني من مايو عام 1902، رحلت عائشة التيمورية، صاحبة الصيحة الأولى في ثورة المجتمع الحديث ضد نظام "الحريم"، التي حطمت بشعرها وأدبها قيوداً ولكنها حطمت في الحياة قيوداً أعنف وأشد، رحلت بعد أن ضربت المثل على أن العلم لا ينتقص من شأن المرأة، وإنما يرتفع بها إلى أعلى المراتب وأسمى الدرجات.

ليست هناك تعليقات