تعتبر المؤسسات العمومية بجميع أشكالها وألوانها وأهدافها عماد الاقتصاد والتنمية في البلدان النامية والتي كانت بعد الاستقلال أساس كل المخططات والبرامج الاقتصادية والاجتماعية في البلاد بحيث كانت في المرتبة الأولى من حيث التشغيل والاستثمار وتقديم الخدمات الأساسية للعموم كما كانت تمول خزينة الدولة من المداخيل القارة وهي في غالب الأحيان جد مزدهرة ولها ربحية معتبرة.
لكن في الأعوام الأخيرة وبعد تبدل الخيارات الاقتصادية والتوجه نحو اقتصاد السوق تحت ضغط العولمة والليبرالية الجديدة وتدخل الشركات العابرة للقارات والمؤسسات الدولية الفاعلة في الشأن الاقتصادي كصندوق النقد الدولي والبنك العالمي للإنشاء والتعمير، أصبحت هذه الشركات في ضائقة مالية وعلى حافة الإفلاس.
ويذهب البعض بأن المؤسسات العمومية في ظل هذه الاختيارات التي تشجع القطاع الخاص على حساب القطاع العمومي والتوجه نحو اقتصاد السوق والمزاحمة تم استنزافها وتهميشها بحيث لم تتطور طرق التسيير فيها مع غياب الشفافية والحوكمة الرشيدة داخلها بحيث لم تكن هناك عملية تقييم وهيكلة تتماشى مع المستجدات وبقيت جامدة في مكانها تتبع طرق تسيير عفى عنها الدهر وكأن الأمر مقصود لغاية في نفس يعقوب.
وهكذا تدهورت أحوال جل المؤسسات العمومية التي كانت قاطرة للاقتصاد ومرجع يحتذى به في القطاع الخاص ولم تعد تواكب التحولات على مستوى التصرف في الموارد والتحكم في التكنولوجيا والتسويق بحيث تم التفويت في الكثير منها للقطاع الحر والتنافسي والخاص بأثمان زهيدة وسرح العمال لمواجهة مصير غير معلوم مما زاد في معضلة البطالة وشجع في ظهور الاقتصاد الموازي والتهرب الضريبي.
فالكثير من هذه المؤسسات اندثرت أوتم التفويت فيها للقطاع الخاص أو حتى لبعض الذين كانوا من المسيرين فيها وسببا في إفلاسها، وقد كان من الممكن أن تتطور وتنجح لو كانت مسيرة من أناس أكفاء حسب عقود برامج وليس من طرف موظفين عاديين ليست لهم دراية ومعرفة بالتسيير وكفاءة معتبرة في الميدان كل همهم هو إرضاء من أتى بهم للمنصب فيصولون ويجولون في تبذير المولرد يمنة ويسرة بدون حسيب أو رقيب بما أن صاحبنا مسنود من الأعلى ولا يمكن إزاحته أو تنحيته مهما فعل وأفسد.
وكل من ينتقد أو يعارض أو يشتكي يعاقب عقابا شديا أو يجمد ويحنط في الدهاليز المظلمة أو ينفى إلى الأماكن البعيدة والفيافي المقفرة وهكذا تم القضاء على العديد من الكفاءات وقهرها وتغييبها عن الفعل والتسيير مع تقريب جماعة بني ''وي- وي'' وتمتيعهم بالامتيازات والترقيات والخطط الوظيفية بسرعة البرق فالمهم هو ولائهم ومساندتهم لهم حتى لا يغادر المنصب الرفيع.
وهكذا أضحت جل المؤسسات العمومية مرتعا للوبيات وشلل ومجموعات متناحرة باحثة عن المغانم والمناصب والترقيات والزيادات فغابت القرارات الحكيمة بالمؤسسة وأصبح المسؤول عرضة لضغوط هائلة وتتقاذفه الأمواج العاتية يسرة ويمنة فإما أن يدخل معهم في صراعات هوجاء في سبيل المصلحة العامة أو يخضع للإبتزاز ويدخل في عملية الترضيات خوفا من لعنة ''ديقاج'' وهكذا حال المؤسسة العمومية في الغالب الآن مما نتج عنه تقلص في النشاط وانعدام للرؤيا المستقبلية واضمحلال للمشروع.
فالمؤسسة العمومية كالوليمة المباحة تنهشها الكلاب الجائعة من كل الجهات دون شفقة ولا رحمة وقد زاد الطين بلة تنصيب الموالين وبعض المتنفذين حزبيا وبعض أشباه المسيرين والذين لم يفلحوا سابقا ولم ير منهم الناس إبداعا ومعرفة وحنكة في التصرف في الموارد والمشاريع غير الولاء والانبطاح والالتزام بالحكمة الإدارية المجربة ''الحضور والسكوت والتزين بربطة العنق الملونة وعدم التفوه بكلة لا مطلقا''.
وهذه القيم المفضلة لدى أصحاب القرار والتي تقدم القشور عن اللب والسطحي عن الجوهر والخلان والأصدقاء والأقارب عن أصحاب المعرفة والكفاءة أضرت كثيرا بمؤسساتنا العمومية فغاب عنها الابداع والابتكار والفكر المستقل والنقد والديمقراطية الإدارية فتحولت إلى شبه جسد ميت لا روح فيه غير تحبير الأوراق وملئ الفراغات والحضور الممل بالمكاتب لقتل الوقت والدردشة.
وإذا ما تم القضاء على المؤسسات العمومية وخاصة التي تقدم خدمات أساسية للمواطن كالنقل والكهرباء والماء والتعليم بدعوى عدم الربحية وعدم قدرة الدولة على تحمل أعبائها المتفاقمة فإن الاقتصاد الذي هو في حالة هشاشة هيكلية واجتماعية لا يستطيع تحمل ذلك فالقطاع الخاص لا تحكمه ضوابط الجودة إلا من خلال الصورة والاشهار المزيف ولا يمكنه الاستمرار عند الخسارة أو في حالة الأزمات. ثم إن مفهوم الربحية في القطاع العام لا يمكن حصره في المعنى المادي فقط ويتعدى إلى الربح الاجتماعي لأن القطاع العام له تأثير كبير وغير مفوتر ومحسوب نقديا على القطاعات الأخرى بصفة مباشرة وغير مباشرة. فعند إضافة هذه التأثيرات الاجتماعية الغير مباشرة للموارد المالية يمكن أن تصبح المؤسسة رابحة بالفعل.
فالعملية الاقتصادية العمومية لبعض النشاطات الحيوية لا تهمها الربحية ولا تعنيها المزاحمة ولا يمكن تقييمها حسب المنطق المحاسبي الضيق لكن تعنيها جودة الخدمات وحسن التصرف والحوكمة الرشيدة ضمن ضوابط منهجية صارمة.
فحوكمة المؤسسات العمومية ومحاربة الفساد المستشري داخلها وهدر الموارد بها ضمن برنامج تأهيلي وهيكلي مخطط له بعناية بعد التقييم والدراسة يمكن أن ينقض القطاع العمومي من الانهيار والإفلاس في ظل فترة تجاذب محمومة من أطراف عديدة داخلية وخارجية لها مصلحة في الانقضاض عليه فكل همها المصلحة الخاصة وتعظيم أرباحها على حساب الطبقات الضعيفة والمتوسطة والسلم الاجتماعية.
فالفترة التي تعيشها البلاد حاليا تتسم بالهشاشة السياسية وبطئ شديد في أخذ القرارات وغياب كلي لرؤيا واضحة وتكالب مقيت على المورد العمومي للحصول على منفعة في الغالب غير مستحقة يبعث على القلق والحيرة لدى عامة الناس التي تنتظر دخانا أبيض في آخر النفق.
ليست هناك تعليقات