أخبار الموقع

اهــــــــلا و سهــــــــلا بــــــكم فــــــي موقع مجلة منبر الفكر ... هنا منبر ختَم شهادةَ البقاءِ ببصمةٍ تحاكي شَكلَ الوعودِ، وفكرةٍ طوّت الخيالَ واستقرتْ في القلوبِ حقيقةً وصدقاً " اتصل بنا "

« الدَّجاجةُ المُلَوَّنةُ الأَخيرةُ » ... بقلم : فريد غانم



 « الدَّجاجةُ المُلَوَّنةُ الأَخيرةُ »
    بقلم :   فريد غانم    
   30/5/2017


« مجلة منبر الفكر »
  فريد غانم       30/5/2017


تلوّنَتْ بما تيسَّرَ من أطيافِ الزّقاق؛ على عنُقِها، عندَ حافَّةِ الصّدرِ، رشقَةٌ من طمْيِ البَحرِ الذي انسحبَ منذُ زمنٍ بعيدٍ، واكتفى بالعيشِ في حُفْرةٍ مُسيَّجةٍ بالشّطآن؛ رشقَةٌ حمراءُ على الجَناحين، من بقايا اللّافا التي نفثَها البركانُ قبلَ أن يلفُظَ أنفاسَهُ الأخيرةَ فوقَ القُرى المحفورةِ في الطَّين والمكسُوَّةِ بالغُبارِ المحروق؛ رشقةٌ صفراءُ عندَ الظّهرِ، من ذهبِ خريفٍ فائتٍ مُلقًى على الدّرب. خطّانِ متوازيانِ من الأخضرِ الدّاكنِ، يمتدّانِ على ريشتَيْن طويلَتَيْن، من بقايا دُودَةِ القزِّ. ذيلٌ أَسْودُ، تشوبُهُ ريشاتٌ اكتستْ بالأبيضِ الذي يسكُبُهُ قمرٌ خائفٌ كلَّ ليلةٍ. عُرْفٌ زهريٌّ من الرّبيعِ الوحشيِّ الّذي دجّنَهُ المُزارعون. ومنقارٌ يشبِهُ نصفَ سنبُلةٍ مشوِيَّةٍ. دوائرُ دوائرُ، تخرجُ من نفسِها لتدخلَ في غيرِها، كرُزَمِ النُّور.

إنَّها الدَّجاجةُ المُلوّنةُ الأخيرة.

وهي دجاجةٌ فقيرةٌ، لا تملكُ من مَتاعِ الدّنيا غيرَ بريقٍ قديمٍ وما يسقطُ من باطنِ الأرض. طالَ الخريفُ هنا، والدّروبُ معبّأةٌ بالذّهبِ الرّخيص. شمسٌ تنقُصُ كلَّ يومٍ. قمرٌ يزدادُ حُزنًا كلَّ ليلةٍ. مكنسةٌ من الرّياحِ المُشعّبةِ تُلملِمُ فساتينَ الأَرض. شقوقُ الشِّفاهِ تتّخِذُ شكلَ ابتهالاتِ استسقاء. والدّجاجةُ لا تعرفُ شيئًا عن جمالِها وعن السّكاكين.

"ريكاردو مريضٌ"، تردَّدَ الصّوتُ في الفناءِ المسكونِ بالبَقايا. "ريكاردو مريضٌ" قالت مريمُ الطيّبةُ. يخرجُ الصّوتُ الملوّنُ باللَّوْعةِ من الشُّبّاكِ الخلفي المُطلِّ على الفَناء، ويرتطمُ بطاولةٍ مقطوعةِ السّيقان، بكرسيٍّ بلا ظهرٍ، بثلّاجةٍ بلا وجهٍ، بتلفزيونٍ بلا شاشةٍ، بجنزيرِ دبّابةٍ قديمةٍ قتَلَها تأنيبُ الضّمير، بحذوةِ حصانٍ صدِئَة، بحبالٍ تشبُهُ فروةَ الرَّأس، بدُميةٍ مقطوعةِ اليَديْن وعلى وجهِها بسمَةٌ معلَّقةٌ  تشبِهُ صحنًا مستطيلًا. وريكاردو مريضٌ.

تُقرقرُ الدّجاجةُ الملوّنةُ الأخيرةُ. عينٌ على دُودةٍ في وجهِ الزّقاق، وعينٌ على الفَناء المسكونِ بالسّقْطِ والخُرْدَوات والصّوتِ الحائرِ بينَ البقايا. التَّنّورُ الباردُ صارَ مقرَّها في اللّيل. تنُّورٌ من الزّنكِ المُلثَّمِ بالغُبار والكهولة، فقدَ جمرَ تلكَ الأيّام التي توفّرَ فيها الخبزُ والهواء. تمرُّ طائرةٌ فوق الزّقاق. تتظاهرُ الدّجاجةُ المُلوّنةُ الأخيرةُ بالموتِ. عينٌ على الدُّودةِ الخارجةِ من تجاعيدِ الدّرب، وعينٌ على النّسر المعدنيِّ، وعينٌ ثالثةٌ على الصَّوْتِ المتأرجحِ في الفَناء. "ريكاردو مريض".

إنّها الدّجاجةُ المُلوّنةُ الأخيرةُ هنا.
نظرَتْ أكثرَ من مرّةٍ، في سالِفِ الأيّامِ، في بقايا المرآةِ المُنَمَّشةِ المُلقاةِ بين الثلّاجةِ التي لا وجهَ لها وبين الطّاولةِ مبتورةِ السّيقان. رأتْ في المرآةِ المنمّشةِ طيرًا جميلًا يشبِهُ الدّجاجة. حفرت في المرآةِ بمخالبِها، فعثرتْ على امرأةٍ تحملُ صدرَها بيديْها، ورجُلًا يتدرّبُ على الابتسامِ والانحناء. لم تعرفْ أنّها تتلصَّصُ على القرنِ الرّابع عشر.

"ريكاردو مريض". توقّفَ الصّوتُ. همهماتٌ وتراكضٌ خلفَ البابِ المُطلِّ على الفَناء. رائحةُ الموتِ تتسرّبُ من الدّاخل، تسيلُ على الدّرجِ الخشبيِّ، وتهطلُ على الدّرب. تستعيدُ الدّجاجةُ المُلوّنةُ علاقاتِها الحميمةَ بالدّيكِ البنّيِّ. هزَّتْ رأسَها حَسْرةً فتأرجَحَ عُرفُها. كانَت دجاجتَهُ الفُضلى، وإنْ لم يكن هنالك غيرُها. كان يختالُ بصدرِهِ المنفوخ، يعتلي عمودًا خشبيًّا أحضرهُ ريكاردو حين استبدلوا أعمدةَ الهاتفِ قربَ الطّريق السّريع، وكانَ يصيحُ كمن يُقهقِهُ. أحبَّتْهُ الدَّجاجةُ الملوّنةُ. تذكَّرتْ يومَ قفزَ فوقَها وسقط. ضحكَتْ.

الهمهمةُ في الدّاخل تتحوّلُ إلى وَلْولَةٍ. "ريكاردو مريضٌ". تتوهّمُ أنّها تسمعُ دندنةً كانت تعلَّمَتْها. "كيفَ أنام/كيفَ أنامْ؟/وبطني خاليةٌ من الطّعامْ/". تتسمّرُ الرّيشاتُ على قفاها. تعودُ الدّجاجةُ إلى أيّامِ الدِّراسة. اختارت موضوع الأدب الشّعبي لتكتشِفَ سرًّا. لم يعجبْها حينئذٍ  المثلُ الشّعبيُّ الذي يجعلُ منها دواءً. "لا يأكلُ فقيرٌ دجاجةً إلّا إذا كانَ أحدُهما مريضًا"*. هي في تمامِ الصحّةِ وقمّةِ العطاء. كلَّ يومٍ تُبعثِرُ الزّقاقَ على ريشِها، تستخلصُ الدّودَ الماسيَّ واليرَقَاتِ اليانعةَ، وتبيضُ في التنّورِ البارد. تتمنّى الشَّفاءَ لصاحبِها. لكنَّ ريكاردو الآن مريضٌ وقد يحتاجُ إلى أكثرَ من بيضةٍ.

تمرُّ في الشّارعِ الرئيسِ سيّاراتٌ نفَّاثةٌ. يخرجُ الطّبيبُ من الدّاخل، حاملًا حقيبتَهُ، ويقولُ كلامًا لا تفهمُهُ الدّجاجةُ المُلوّنةُ. قالت مريمُ يومًا إنَّهُ لم يدْرُسِ الطبَّ في الجامعة. يلقي الطّبيبُ عليها نظرةً. يلتفُّ للعودةِ إلى الدّاخل. لكنَّهُ يتوقَّفُ أمامَ الباب. يلتفُّ مرة أخرى ويمضي حتّى تبتلعَهُ الدّربُ. هي تعرفُهُ. يُعالجُ الفقراءَ والحيواناتِ الأليفةَ مجّانًا بالمراهِمِ والدّهونِ والكلامِ الذي يُنبِتُ الشَّجرَ الطّيِّبَ. تخرجُ مريم خلفَهُ. تمشي وراءَ رأسِها السّاقطِ إلى أمام، إلى أنْ تختفِيَ.

تعودُ الطّائرةُ لتطيرَ فوقَ الزّقاق. تلوي الدّجاجةُ المُلوّنةُ عنُقَها، تُلقي عينًا على التُّرابِ وعينًا على النّسرِ المُزَمجِر. تسقطُ على الأرضِ جثّةً هامدةً، لكن سرعانَ ما تقومُ على رجلَيْها عندما يتبخّرُ الضّجيج. تتمشّى، وتطلقُ عنُقَها إلى الأمام بالتواءاتٍ لولبيّة. تتسلّقُ على الدَّرجات الخشبيّة حيثُ انسكبَتْ رائحةُ الموت. تُقرقِرُ. ترتجفُ حنجرتُها. تدفعُ البابَ بجناحِها.

على السّرير يستلقي ريكاردو. هي تعرفُ أنَّ لهُ أسماءَ سابقةً. سمعتْهُ يتكلّمُ في منامِهِ أكثرَ من لُغةٍ. كانَ اسمُهُ هوغو، مرّةً. وكان اسمُهُ "لِيان" في زمنٍ آخر. في إحدى المرّات سمعتهُ ينادي من داخلِ حُلمِهِ "رشيد، رشيد". أمّا الآن فهو مريضٌ وتفوحُ منه رائحةُ الموت. للموتِ لغةٌ واحدة. تُفكِّرُ بلا صَوْت.

قفزَت الدّجاجةُ المُلوّنةُ على طاولةٍ متداعيةٍ قربَ السَّريرِ وألقَتْ نظرةً على الجريدة التي لا بدَّ أنَّ الطّبيب تركَها هناك. التّاريخُ يشيرُ إلى أنّها قديمةٌ. قرأَتِ العناوينَ بعَيْنٍ، فيما كانت تراقبُ ريكاردو بالعَيْنِ الثانية. رجلُ أعمالٍ يرصدُ كلَّ أرباحِه من صفقةِ الأسلحةِ لشراءِ وجبةٍ ساخنةٍ لفقراء بلادِه. في صفحةٍ الأخبارِ الاقتصاديّة  قرأَتْ عنوانًا بأنَّ الحكومةَ أقرّتْ الحصولَ على قرضٍ لسدِّ ديونِها للمُقرِض. في صفحةٍ داخليّةٍ قرأَت عن تجاربَ ناجحةٍ في استنساخِ الدّجاجِ والخرفان والنّمور السيبيرية، فوقَ صورةٍ يظهرُ فيها حشدٌ هائلٌ من الدّجاج الصّامت، جالِسًا القرفصاءَ بانتظامٍ مهيب. في عنوان فرعيٍّ خبرٌ عن حظرِ استنساخِ البشر. وفي إطارٍ بالألوان، قرأتْ إعلانًا عن تنزيلات هائلةٍ على صبغاتِ العيونِ بالأزرق والشَّعْر بالذّهبيّ.

أغلقت الدّجاجةُ الجريدة. ألقتْ نظرةً بالعَيْن اليُمنى، ثمَّ نظرةً بالعَيْن اليُسرى، على ريكاردو. فتحَ عينَيْه. ابتسمَ لها. بكَتْ. أغلقت البابَ وراءَها ومشتْ بعيدًا إلى أن ابتلعَها الزّقاق.

في اليومِ التّالي، واصلت الطائراتُ تحليقَها فوقَ الزّقاق، وواصلت الدّيدانُ سقوطَها من باطنِ الأرض، والسيّاراتُ النفّاثةُ انطلاقاتِها على الطّريق السّريع. شاعَ نبأٌ بأنَّ الدّجاجةَ المُلوّنةَ التهمَت صاحبَها. لكن، في مراسيمِ دفنِ ريكاردو ساعاتِ العصرِ، حضرتْ مريم وانحنتْ فوقَ رأسِها، وحضرَ الطّبيبُ بثيابِهِ الرثّة وحقيبتِهِ الفارغة. بعدَ تلاوةِ صلاةِ العودةِ إلى التُّراب، قالَ الكاهنُ، حين كان يُلقي حفنةَ ترابٍ فوق الحُفرة، إنَّ ريكاردو ماتَ لأنَّ دجاجتَهُ المُلوّنةُ تخلّت عنهُ في اللّحظةِ الحاسِمة.

لكنَّ الدّجاجةَ المُلوّنة كانت تعودُ في اللّيل، تتظاهرُ بالموْتِ حينَ تمرُّ النُّسورُ المعدنيّةُ، تنظِّفُ قبرَ ريكاردو من الدّيدانِ المتساقطة من باطنِ الأرضِ، وتنامُ في التّنّور على كومةٍ من البيض.

****
*مثلٌ شعبيٌّ برازيليّ.
‭‮
‭‮

  اقرأ المزيد لـ فريد غانم


لإرسال مقالاتكم و مشاركاتكم
يرجى الضغط على كلمة  هنا


ليست هناك تعليقات