على أبواب السلطان وقصره المهاب الذي يحجب ضوء الشمس ويعزل الرعية أصحاب السلطة الفعلية عما يطبخ في الداخل من دسائس وما يجري في الدهاليز المظلمة خلف الستائر السميكة لا نجد فقط العسس بل طوابير من المتكالبين على السلطة وجحافل من الانتهازيين ومحترفي لعق القصاع وفتات المرق المصلوب.
فالسلطة في مفهومها البدائي المتخلف هي متعة من التسلط والتحكم والتعالي والهيبة فتمنح صاحبها صفة إلهية مقدسة تأمر فتطاع وبيدها كل خيوط اللعبة والثروة وهي الماسكة بدواليب ومفاصل الدولة عن طريق السطوة الغاشمة وأجهزة من المخبرين ومن المريدين المحترفين للوشاية وتنفيذ الأوامر السلطانية دون تردد وذلك لقهر المخالفين والمتنطعين والمارقين من العباد.
ورغم مرور زمن طويل عن بداية ثورات الحرية والتطور السياسي والاجتماعي في العالم فلم تتغير نظرة الناس للسلطة كثيرا ورغم الضوابط الدستورية والقانونية والتقدم على مستوى الحريات وحقوق الانسان فقد بقيت السلطة هي العدو الأساسي للإنسان لأنها تكرهه على الفعل بالقهر والقوة مهما كانت ناعمة أو دافئة نحو أهداف معينة ضد إرادته ورغبته في الكثير من الأحيان.
فالصراع لا ينتهي ولا يتوقف بين إرادة الانسان وإرادة السلطة بحيث لا هوادة بينهما وكل النظم السياسية هي محاولة للخداع والتمويه والتحايل على مكر التاريخ وواقع الأشياء لأن من يحكم يملك أيضا الثروة زيادة على السلطة وبذلك يستطيع تطويع المؤسسات والأفراد نجو الغايات التي يريدها وهي في الغالب موجهة لخدمة مصالح السلطان و خدمه ومريديه.
فالتفتيت المؤسساتي للسلطة كوجود برلمانات وانتخابات وهيئات دستورية هي في واقع الأمر حيلة شيطانية لتلهية المواطن المفعول به وإيهامه بأنه يعيش ديمقراطية وهي في الحقيقة ديمقراطية زائفة ما دامت الأغلبية من الناس تتخبط في وحل الفقر والتهميش والبطالة والأمية.
وبما أن السلطة حامية للفساد بحكم الحصانة التي يتمتعون بها غصبا عن إرادة الناس لأنه لم تقع استشارتهم في الأمر فكيف ينفردون بهذا الامتياز دون غيرهم وهم الذين يتصرفون في ثروة البلاد دون حسيب أو رقيب؟ فمن المنطق أن يكونوا من أوائل الناس عرضة للمساءلة القانونية والرقابية لخطورة مهامهم على الشأن العام والمصلحة الوطنية. ولغياب المحاسبة وتعدد الامتيازات نجد التكالب على السلطة والبحث عنها بكل الطرق للتمتع بنعيمها وحصانتها المطلقة.
فالتكالب على السلطة هو البحث عن الامتيازات المجزية والنفوذ والهيبة والحصانة ضد الفساد والتغول وتبديد الثروة وتمكين الأقارب من المناصب المعتبرة دون محاسبة ومراقبة وتقييم وقد رأينا كيف أن الداخلين إليها من بسطاء القوم يخرجون منها وهم في عز ونعيم.
وحتى وإن تعلقت بهم الشبهات وتهاطلت الشكايات كأمطار الخريف فلا نجد لها نارا أو دخانا أو متابعة وفي كثير من الأحيان يعاقب أصحاب الشكايا بالنميمة والحسد والادعاء بالباطل ويوسمون بسوء النية والصيد في الماء العكر. وفي أحيان أخرى يجبر صاحب الفعلة على مغادرة الموقع لمكان آخر لتبييض فعلته ومواصلة أعماله وكأن شيئا لم يكن.
فالسوق السياسية أصبحت نشطة هذه الأيام بحيث تتدافع الشخصيات والأحزاب والمنظمات على باب السلطان تنتظر لفتة كريمة ومناصب في الحكومة تليق بتاريخها وانجازاتها وهي في الحقيقة عملية مساومة لاقتسام التركة والثروة والحصول على الحصانة وغنائم السلطة دون بذل مجهود يذكر كشأن من يتمتع بريع الأرض الخصبة في اقتصاد الاقطاع.
فهل هناك منكم من سمع عن برنامج مفصل وعملي لإخراج البلاد من محنتها ومن الوضع المتردي الذي وصلت إليه وخطة لمقاومة الفقر والتهميش والبطالة والفساد؟ نحن نسمع عن أشخاص ومناصب وتوزير فلان وعلان لترضية بعض الأحزاب قبل الخطط والتصورات والكفاءات والحلول القابلة للتنفيذ وكأن الأسماء وحدها ستصنع المعجزات وقديما قيل الخطاف لا يصنع الربيع.
وأكبر دليل على معضلة التكالب على السلطة هو تصرف الحكومة الحالية فبعدما أوهمونا أنها حكومة كفاءات لا يشق لها غبار وستنقذ البلاد في أقرب الأوقات وبيدها عصا سليمان قدمت وعودا ثورية ونذكر مثلا قضية بيع السيارات الإدارية وحذف أذون البنزين المرهقة لميزانية الدولة واتباع سياسة الحوكمة الرشيدة والتحكم في الاسعار والقضاء على الفساد والمحسوبية وإصلاح منظومة الضمان الاجتماعي بالتمديد في سن التقاعد واصلاح منظومة التعليم والجباية لكنها اتبعت مقاربات جزئية وانتقائية وأحادية الجانب وفوقية لم تراع مصلحة المواطن بل زادت الطين بلة فكثرت الاحتجاجات والاضرابات في قطاعات حساسة كالتعليم والنقل والفسفاط.
فأغلب أفراد الحكومة الحالية بعد أن التزموا بالحياد والتطوع لخدمة البلاد يبحثون الآن كل بطريقته عن مواقع حديدة بعد أن ذاقوا حلاوة الكرسي والسلطة وإلا كيف نفسر قيامهم في آخر لحظة من عمر حكومتهم المؤقتة بمشاريع في غاية الخطورة تمس بالأساس قطاعات هامة ومؤثرة على المستوى العددي والنقابي. فالمشاريع المذكورة هي هيكلية بامتياز وتتطلب مشاورات عميقة وهذا من مسؤولية الحكومة الدائمة
فلماذا التسرع لو لم تكن هناك غاية في نفس يعقوب؟ ثم كيف لا يقع التسرع في معالجة غلاء المعيشة ومحاربة الفقر والبطالة والفساد أو الاتفاق على الزيادات في القطاع العمومي مثلما طالب به الاتحاد العام التونسي للشغل بإلحاح. فالنزعة الشخصية للحكومة الحالية وخضوعها لأجندات الدوائر المالية العالمية ثابتة برفع الدعم عن المواد الأساسية وتجميد الزيادة في الأجور وترك الحرية للأسعار لتصعد لعباب السماء.
ليست هناك تعليقات