الإرهاب يضرب. والإرهاب يُضرب، والسلاح يقابله السلاح، فيما ترتفع أكوام الجماجم، وتزداد أنهار الدماء، وتنحو الدول نحو التفتيت، والاندثار.
لم يمر خطاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمام الجمعيّة العامة للأمم المتحدة، مرور الكرام، سياسة التهديد والوعيد، والأصابع المرفوعة في وجه الجميع، لم تعد مستحبّة. بعض الدول الحريصة على القيم الأخلاقيّة، وفي طليعتها الفاتيكان تحبس أنفاسها، وهي في قلق شديد حول المستقبل، والمصير. بريطانيا خلعت عن كتفيها رداء الوَحدة، وقررت الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، كاتالونيا تحاول الانفصال عن إسبانيا. مسعود البرازاني حمل لواء الاستقلال، والانفصال عن حكومة بغداد. فيما ظواهر التفسّخ تزداد، وسياسات التفرقة تتكاثر في ظلّ أسلوب التأنيب الذي تمارسه دول عظمى لا تعرف أن تتعاطى إلاّ بوسائل القمع، وإعلان العقوبات الاقتصاديّة، وتوزيعها يمنة، ويسرة، دون أي اكتراث لما يصيب العلاقات الدوليّة من مخاطر.
وفي خضم الانشغالات الكبرى التي تربك المجتمع الدولي، تسجل المرجعيات الحريصة على القيم الإنسانيّة، والروابط المجتمعيّة والأخلاقيّة -وفي طليعتها الفاتيكان- مآخذ عميقة على السياسات الاحتوائيّة التي تمارسها الدول النافذة تحت شعار مكافحة الإرهاب، وكأن هذه "الفزيعة" قد اخترعت لتنفيذ سياسة متوحشة من معالمها اجتياح كلّ الخصوصيات سواء أكانت متمثلّة بدول، أو بأنظمة، أو كيانات، أو اتحادات، أو تجمعات، عن طريق استخدام معايير لا أخلاقيّة هدفها نهش الخيرات، وسلب الثروات.
واستنادا إلى ما تقدم، تكبر الهوّة ما بين الفاتيكان، وإدارة الرئيس ترامب، وتتعمق. كانت الشرارة الأولى قبيل انتخابه، وبعده، عندما هاجم الوافدين من دول أمريكا اللاتينيّة، ونعتهم بأقبح الألقاب، وهدد بطردهم، وقرر بناء جدار الفصل مع المكسيك، وحمل بعنف على مجريات الأمور الداخليّة في فنزويلّا، وساهم في تجويع شعبها لمقتضيات مصلحيّة، وإنتقد السياسة الاقتصاديّة الليبرالية المعتمدة في البرازيل، ولم يتوان عن نعت العديد من مسؤولي دول أمريكا اللاتينيّة " بقطّاع طرق، ومروجي مخدرات" .
ووصل به المطاف إلى كوبا، وحطّ الانفعال رحاله على تخوم هافانا، عندما قررّ الرئيس الأمريكي، ولأسباب لم تقنع أحداً نقض كلّ ما بدأه الفاتيكان عندما حثّ الرئيس باراك أوباما على زيارة العاصمة الكوبيّة، وفتح صفحة جديدة مع النظام، وإبرام رزمة من الاتفاقيات التي تعزز ثقافة الانفتاح. لماذا قرر الرئيس ترامب نقض كل ما بناه سلفه أوباما؟، ربما لفرض نهج جديد من سياسة الاحتواء، ولجرّ شبه الجزيرة الكوبيّة إلى دائرة الانصياع لما تمليه واشنطن من إملاءات.
ذهب إلى القارة الصفراء ليفتح النار على كوريا الشماليّة، ويقرر الانتقام من "الرئيس الصاروخ" كيم جونغ أون، وإذ به يفاجأ بأن الأخير أكثر جنوناً من القرارات المجنونة التي تستهدفه، وراح يطلق الصواريخ العابرة فوق الأساطيل الأمريكيّة المنتشرة في الخليج الصيني، ويجري الاختبارات النووية تحت الأرض، والتي تحدث زلزالا بلغ في إحدى المراحل إلى 3،4 درجات، فما كان من قاطن المكتب البيضاوي في البيت الأبيض إلاّ الاستنجاد بمجلس الأمن، قبل أن يعود ويتأكد بأن سياسة فرض العقوبات لم تعد تجدي، طالما أن القرار يواجه بصاروخ باليستي، والعقوبة تواجه باختبار نووي مزلزل. ويقال -وفق ما أعلنه وزير خارجيته ريكس تيلرسون- إنه قررّ الحوار، وفتح صفحة جديدة مع بيونج يانج، شرط أن يوافق "الرئيس الصاروخ؟!" .
وجاء إلى الشرق الأوسط على رأس تحالف دولي عريض لمكافحة الإرهاب، وإذ به يبقر بطن التاريخ، فتفوح منه كل الروائح الكريهة، وبدلا من أن يرعوي، قرر الذهاب بعيداً في تفجير الحضارات، وتأليب الثقافات بعضها ضد البعض الآخر، والتطلع نحو الكيانات التي رسم حدودها سايكس - بيكو، ليمعن بها هدماً، وتفسيخا، وتهجيرا. مليونا نازح من العراق، وماذا بعد؟، عراق يندثر، الشمال الكردي يصوّت لمصلحة الاستقلال، وسنّة الأنبار على الطريق، والحشد الشعبي إلى ما تمليه فتاوى المرجعيات والأئمة. أما في سوريا، ملايين من النازحين، وقد خرجت اللعبة بالكامل من أيدي السوريين، ليستقرّ القرار في عهدة موسكو وواشنطن، والأدهى، يطلّ وزير الخارجيّة وليد المعلم ليعلن بأن حصول أكراد سوريا على نوع من حكم ذاتي مسألة فيها نظر، وقابلة للتفاوض؟!، فماذا عن الفئويات الأخرى في المجتمع السوري؟!.
لقد تحوّلت طاحونة الشعوب إلى طاحونة قيم، وهذا ما يقلق الفاتيكان، وأترابه، إنه صراع بين ثقافة التوحش، وثقافة القيم!...
|
ليست هناك تعليقات