بغداد على ما يبدو أخذت ترسم لمسارها السياسي والاقتصادي والأمني في تعاملها مع أقليم كردستان العراق منهجا جديدا وبخطوات جدية هذه المرة بخلاف جميع المرات السابقة منذ 2003،وفقا لما جاء من قرارات للمجلس الوزاري للأمن الوطني ولمجلس النواب،فضلا عن تصريحات رئيس الحكومة السيد حيدر العبادي التي امتزجت فيها لغة الدعوة للحوار مع لغة التلويح بالعنف خاصة بعد التخويل الذي منحه له البرلمان ، والزمه بنشر القوات العراقية في مناطق النزاع ومنها كركوك وخانقين وغيرها.ولكن ربما لا يوازي الأمر هذا الخطوات العملية التي اتخذتها حكومة الأقليم وتمسك السيد مسعود البارزاني الذي رفض جميع القرارات والوساطات والنصائح الدولية،وأصر على إجراء الاستفتاء في موعده الخامس والعشرين من أيلول وبالفعل نفذه.
وحيال هذه الإشكالية التي أوصلت حدة النزاع بين بغداد وحكومة الإقليم الى مستوى ان نسمع بلغة الدم في بعض التصريحات،وتمترس كل طرف بما يملك من مقومات مواجهة الآخر في وقت هبوب رياح العاصفة التي لا نستبعد أن تتطور الى حد الصدام والمواجهة وعلى وجه التحديد في كركوك التي تتميز بطبيعة إستراتيجية سياسية واقتصادية جراء توفر النفط والغاز والكبريت فيها بكميات واعدة،
وربما تشتعل هذه الحقول والآبار في حال غابت الحكمة والإرادة الوطنية والعقلانية لدى أصحاب القرار،وسنحت الفرصة للأطراف الخارجية الممثلة بالولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل بإذكاء العنف بين الجانبين.وبلا شك فان الطرف الأميركي الآن يتفرج بخبث رغم إعلان دعمه لوحدة العراق،بينما مواقفه الحقيقية داعمة للاستفتاء سبيلا للاستقلال ضمن سيناريو كبير يشمل تركيا وايران وسوريا ويغرق المنطقة بنزاع يطول وقته لعشرات السنين. لكن الموقف الأميركي المخيف قد سيتراجع ويضمحل إذا ما صطدم بالموقف الصلب لدول الجوار منها تركيا وإيران الرافض للاستفتاء في الأقليم.
وبطبيعة الحال فأن مساحة الود باتت ضيقة للغاية وأصبحت الأطراف الدولية بعيدة عن إبداء دور الوسيط الفاعل،بينما الأتراك والإيرانيون على ما يبدو يتمسكان بموقف صلب ومتماسك اذ كانت من فضائل استفتاء الأقليم تطبيق نظرية (الاختلاف في العقيدة والاتفاق في المصالح الإستراتيجية) بين أنقرة وطهران وتوحدهما من أجل مصلحتيهما الوطنية ودعم بغداد لإجهاض خطوة انفصال الكرد عن الدولة العراقية.
والسيناريو القادم في العراق على ما يبدو سيكون في حال تمسكت كلا من تركيا وإيران بمواقفهما المتصلبة حيال حكومة الاقليم ،فانه بالمقابل سوف تتراجع الولايات المتحدة من موقفها الداعم لانفصال الكرد
وسيكون للقوات العراقية تحركا باتجاه تطويق مدينة كركوك والتمركز في مناطق الاحتكاك على شرط التحلي بالصبر وضبط النفس،
وبانتظار أن تؤثر سياسة الحصار الاقتصادي والسياسي والدبلوماسي المضروب على الأقليم، ومنها إغلاق مطاري أرييل والسليمانية وإغلاق المعابر الحدودية مع تركيا وإيران والعراق وقطع رواتب موظفي محافظة كركوك بعد إقالة محافظها السيد نجم الدين كريم بالإضافة الى أمور أخرى،
هنا ستعول بغداد على ممارسة ضغوطها هذه وتأثيراتها على علاقة البارزاني مع الشركاء من قادة الأحزاب الكردية الأخرى وجماهيرها التي تتسم بالتوتر،ومن المتوقع أن تظهر الحاجة لدور رئيس الجمهورية السيد فواد معصوم بالتدخل وسيطا ولكن بتسمية أخرى تتضمن طرح مبادرة لتقريب وجهات النظر بين بغداد وحكومة الاقليم
وسيكون للحكومة العراقية موقفا صعبا لا تتنازل عنه الا في حال دخول قواتها المرابطة على تخوم مدينة كركوك والتدخل في الملف الأمني بشكل يعيد لها هيبتها في المدينة التي تهاونت للكرد عنها منذ 2003 ،وسيكون للاتحاد الوطني الكردستاني وحركة التغيير دورا بارزا في تسوية الخلاف بين بغداد والأقليم وإعادة الشراكة بالحكم والبرلمان بين الأحزاب الكردية وعودة رئيس برلمان الأقليم لمزاولة دوره بعد منعه وتعطيل البرلمان لأكثر من 22 شهرا.
وفي حال لم تتحقق هذه الخطوات وانفرط عقد التعاون بين بغداد وأنقرة وطهران، فسيكون لحكومة الإقليم موقفا متصلبا يدفع باتجاه الحلول خارج نطاق الدبلوماسية وستحل لغة المدفع بديلا عن لغة الحوار ما يجعل الحرب لا سمح الله تدور بين القوات العراقية والبيشمركة
وأول ما تحترق بنيران الحرب هذه هي حقول النفط والغاز والكبريت في كركوك. فالأزمة لو نظرت لها الإطراف المعنية المتعنتة التي تنفخ فيها أصوات السياسيين من زاوية تأثيرات الحرب على الواقع العراقي إجمالا لأدركت ان وقت الانفصال عن العراق أمر لا يمكن فرضه بهذا الواقع الحالي لغياب الرؤية الدولية في هذا الموضوع،والأمر الآخر أن العراق يعاني من أقصى شماله لأقصى جنوبه من مخاطر الإرهاب،وحتى اللحظة لم تتحرر جميع الأراضي العراقية،وان أية حالة خلاف تتطور لحد العنف ستكون فرصة ثمينة للإرهاب لأن يتمدد من جديد.
*أكاديمي وإعلامي عراقي
|
ليست هناك تعليقات