« الاقتصاد العالمي يتجه إلى مزيد من الارتفاعات في أسعار الفائدة »
لم يكن اختيار الرئيس الأمريكي دونالد ترمب المليونير الجمهوري جيروم باول مرشحا لتولى قيادة مجلس الاحتياطي الفيدرالي "البنك المركزي الأمريكي" مفاجأة كبيرة لكثيرين.
ورغم إشادته بالرئيسة الحالية لـ "الفيدرالي" جانيت يليين ووصفه لها بأنها "شخص مذهل تماما"، إلا أن ترمب لم يكن على وفاق مع رؤيتها في إدارة "الفيدرالي"، وأبدى في كثير من الأحيان ملاحظات حول رؤيتها للسياسة المالية، بل وانتقدها بشدة خلال حملته الانتخابية، واتهمها بتبني إجراءات تصب في مصلحة إدارة أوباما ومنافسته هيلاري كلينتون.
وفيما كان ترمب يتخذ قرارا بترشيح جيروم باول لإدارة "الاحتياطي"، كان على الجانب الآخر من الأطلسي بنك إنجلترا "البنك المركزي البريطاني" يتخذ لأول مرة منذ عشر سنوات قرارا برفع أسعار الفائدة بنحو 25 نقطة أساس لتصل إلى 0.05 في المائة.
وقد لا يبدو أن هناك رابطا بين الحدثين، كما يستبعد أي تنسيق بينهما، لكن في الحقيقة فإن المدلول الاقتصادي لهما يكشف عن دخول الاقتصاد الدولي وتحديدا السياسات المالية العالمية مرحلة جديدة، ربما تختلف جذريا عن السنوات العشر الماضية التي تلت الأزمة المالية التي اندلعت في 2008 لتتحول لاحقا إلى أزمة اقتصادية عنيفة.
ويطرح ما حدث من تغيير في قيادة "الفيدرالي الأمريكي" ورفع أسعار الفائدة في بنك إنجلترا، عديدا من الأسئلة، وربما كان أهمها يتعلق بمستقبل أسعار الفائدة دوليا.
ورغم إجماع أكثر المختصين الذين استطلعت "الاقتصادية" آراءهم على أن عصر النقود "الرخيصة" عبر الاقتراض بأسعار فائدة متدنية للغاية قد ولى وانتهى، فإن هذا لا ينفي أن الآراء لا تزال متباينة حول ملامح الزيادة المقبلة ومعدلاتها.
الدكتور ميتشيل هاربر أستاذ المالية العامة يعتقد أن أبرز ملامح المرحلة التي ستلي رحيل يليين التي تنتهي فترة رئاستها لـ "الفيدرالي الأمريكي" في شباط (فبراير) المقبل، وبعد رفع بنك إنجلترا أسعار الفائدة بنحو 0.25 في المائة، هي مزيد من أسعار الفائدة المرتفعة.
ويضيف لـ "الاقتصادية"، أن الأسباب الحقيقية التي دفعت الاقتصاد الدولي إلى تبني أسعار فائدة منخفضة تتراجع، لأن معدلات التضخم بدأت في الارتفاع، وهو ما يؤشر على تحسن في الأداء الاقتصادي العالمي، وعلى البنوك المركزية الكبرى الإسراع باتخاذ إجراءات تعمل على " فرملة" هذا الارتفاع دون أن توقفه عن الوصول إلى النسب المستهدفة وهي 2 في المائة.
ويستدرك هاربر قائلا "رفع أسعار الفائدة بات أمرا حتميا، لكن المشكلة تكمن في جانبين، الأول يتعلق بنسبة الزيادة وتلك ستختلف من اقتصاد لآخر وفقا للعوامل المتحكمة في الاقتصاد الوطني محل البحث، والعامل الثاني الفترة الزمنية بين كل زيادة وأخرى، وهنا يجب توخي الحذر بشدة، لأن ذلك يجب أن يتوقف على مدة استيعاب الأسواق لنسبة الزيادة، ومدى تفاعله معها سلبا أو إيجابا".
وربما تعتبر وجهة النظر تلك السائدة حاليا بين عدد كبير من الاقتصاديين والمختصين المصرفيين، لكن هذا لا ينفي من وجود آراء أخرى تحذر من مخاطر الزيادة المقبلة.
الدكتورة تينا براون الاستشارية السابقة في البنك الدولي تعتقد أنه يمكن تفهم قيام دول تنتمي إلى الاقتصاد متوسط الحجم برفع أسعار الفائدة، وأن تأخذ في الحسبان فقط، التداعيات الاقتصادية لهذا القرار عليها أو على محيطها الإقليمي، أما الولايات المتحدة وبريطانيا فإنهما يجب أن يأخذا في الحسبان تداعيات ذلك القرار على الاقتصاد العالمي، فرفع أسعار الفائدة سيوجد نقاط ضعف في الاقتصاد الدولي، ويمكن أن يؤدي إلى انهيار المراكز الضعيفة، "وأعني تحديدا البلدان ذات المديونية المرتفعة مثل الصين".
وتشير لـ "الاقتصادية"، إلى أن النمو الصيني يأتي على حساب ارتفاع كبير في مديونة القطاع الخاص، وزيادة العمل بالآليات المالية المعقدة، التي تزداد خطورتها في ظل تلك الظروف، مضيفة أن "الدين الصيني بلغ نهاية العام الماضي 28 ترليون دولار، وبعض التقديرات الحديثة تصل به إلى 30 تريليون دولار حاليا، وستصل نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي عام 2020 إلى 300 في المائة و320 في المائة في 2021".
وترى براون أن رفع واشنطن أسعار الفائدة، وتحول ذلك إلى اتجاه دولي عام سيترك بصمات على الاقتصاد الصيني، أبرزها خفض معدلات النمو، وتقليص قدرة الأسواق الصينية على الاستيراد من الخارج، والأكثر خطورة افتقاد الصين القدرة على سداد أعباء الديون، "وهذا لن يعني انهيار الاقتصاد الصيني بل تراجع خطير في الاقتصاد الدولي".
وبالفعل فإن الأرقام الرسمية التي تعلنها الحكومة الصينية عن ديونها تبدو مخيفة للغاية، فإجمالي الفوائد واجبة السداد سنويا 870 مليار دولار أي ما يعادل 27 ألف دولار في الثانية الواحدة، بينما يقدر متوسط الدين على كل مواطن صيني نحو 21 ألف دولار، لتمثل ديون الصين نحو 50 في المائة من الدين العالمي.
ومع هذا، يعتقد بيل كيلي الباحث الاقتصادي أن ما يصفه بالطوفان المالي الناجم عن سياسة أسعار الفائدة المنخفضة قد حان موعد إيقافه، حتى إن أدى إلى هزات اقتصادية هنا وهناك.
ويوضح لـ "الاقتصادية"، أن "الفيدرالي" ضخ بمفرده نحو 3.6 ترليون دولار في الاقتصاد الأمريكي خلال الفترة من 2008 إلى 2014، لكن الأسواق لم تستجب بما يتناسب مع هذا الكم غير المسبوق من المال الذي تم ضخه في الأسواق، مشيرا إلى أن الاقتصاد الصيني وارتفاع معدلات الدين لديه، يجعله يتمتع بقوة اقتصادية تؤهله لاستيعاب صدمة ارتفاع أسعار الفائدة.
ولكن كيف يقيم المختصون الإشارات التي ترسلها الأسواق العالمية للتوجهات المقبلة برفع أسعار الفائدة؟ يعتقد البعض أن سوق السندات لا تبدو مرحبة بهذا الإجراء، وأنه تبعث برسائل سلبية لقرارات رفع أسعار الفائدة.
جون فولي المحلل المالي في بورصة لندن يشير إلى أنه بالنظر إلى سندات الخزانة الأمريكية سنجد أن الفجوة بين عائد السندات قصيرة الأجل "عامين" وطويلة الأجل "عشرة أعوام" تقلصت بشكل ملحوظ، وهذا مؤشر سلبي لأن ذلك يعني أن معدل النمو الأمريكي سيكون منخفضا العام المقبل، فعائد السندات قصيرة الأجل يعبر أكثر عن زيادة "الفيدرالي" للفائدة، وهو الآن 1.63 في المائة بينما عائد السندات العشرية تراجع من 2.31 إلى 2.47.
ومع هذا، يرى نيل كامبل الباحث في بنك إنجلترا أن السياسة النقدية العالمية تتبع المسار الذي يختاره "الاحتياطي الفيدرالي" الأمريكي، مضيفا أنه "على الرغم من أن أكبر البنوك المركزية في العالم تسير نحو رفع أسعار الفائدة في نهاية المطاف، والانسحاب من برامج التحفيز الكمي، إلا أن الصورة لا تبدو بالضرورة - من وجهة نظره - في اتجاه تصاعدي وحسب، فالوقت من وجهة نظر كامبل لا يزال مبكرا لإصدار القول الفصل في هذا الشأن الآن".
ويضيف لـ "الاقتصادية"، أنه "من المنطقي للغاية أن تشكل زيادة معدلات الفائدة البنكية المسار الاقتصادي النهائي، إلا أن النمو الفاتر للاقتصاد الدولي في ظل بيئة التضخم المستمر، والتوتر العالمي نتيجة تعالي النبرة الحمائية للإدارة الأمريكية، وحساسية الأسواق متمثلة في الوضع الراهن للسندات الأمريكية، يجعل من تيار الصقور الممثل في "الفيدرالي الأمريكي" وبنك انجلترا أميل إلى رفع الفائدة مع ترقب دائم لردات الفعل".
ويؤكد الباحث في بنك إنجلترا أنه من الصعب حتى الآن القول بشكل قاطع إن البنوك المركزية الكبرى قد حسمت أمرها برفع الفائدة، فـ "المركزي الأوروبي" لا يزال محافظا على موقفه التقليدي بدعم سياسة التحفيز الكمي، وهو ما يدفع بالصقور إلى تبنى خطاب داعم لفائدة مرتفعة، لكن دون الانجراف التام في هذا الاتجاه، في محاولة لشراء مزيد من الوقت حتى يتضح الموقف النهائي للبنوك المركزية الكبرى.
ويتوقع كامبل ارتفاع أسعار الفائدة في الأشهر المقبلة، لكن دون مغالاة في الزيادة، مع تبني نهج يقوم على تحسس الوضع العام وردود الفعل العالمية، لتظل هناك إمكانية للتراجع إذا ما دق ناقوس الخطر في مكان ما.
ليست هناك تعليقات