كلنا نولد فقراء وجهلة ونسعى في الأرض ارتزاقا وكدحا وبحثا عن العلم والمعرفة والقليل منا رأى نور الحياة وبفمه ملعقة من الذّهب وعند كبره لم يبحث عن مصدر ثروة اجداده التي آلت اليه بالوراثة ولم يتعب من أجلها، فأغلبية الشعب التونسي من الكادحين الساعين إلى قوت يومهم ويعملون ويجدّون في البحث عن الخروج من نفق الفقر والخصاصة والحرمان والقليل منهم كان محظوظا.
فالعائلات التي كانت تدور في فلك البايات واتباعهم والسلطة الاستعمارية الفرنسية فيما بعد قبل ان يأتي حكم بورقيبة على أنقاض الفترة الحسينية ووريثه بن علي.
فالارتباط بدائرة الحكم وخدمته وطاعته شبه العمياء كان السبيل الوحيد تقريبا إلى بلوغ أعلى المراتب التي تخوّل لصاحبها السلطة والجاه والنفوذ والاستغلال فيتمكن في ظرف وجيز من الاستحواذ على الأراضي والعقارات والاموال دون مراقبة ومحاسبة لأنّ نظام الحكم كان فرديا دكتاتوريا لا يعترف بالمواطنة والشفافية والمصلحة العامّة.
وهكذا اصبحت بين أيدي هؤلاء الثّروات الطائلة التي مكّنتهم من التحكم لاحقا في دواليب الدّولة ولعب دور الشريك في الحكم مقابل السكوت عن التجاوزات فاستشرى نتيجة ذلك الفساد والمحسوبية فالدكتاتورية المالية نتجت عن بروز طبقة متنفّذة منذ عهد البايات ولم تكن نتجة عمل وكدح ونظام اقتصادي مثمر، بل هي تراكم للفساد وخليط من الاقطاع والنفوذ المرتبط بالسلطة. القاهرة والجشع والخواء الفكري والمعرفي
وهذه الطبقة ارتمت في احضان الاستعمار حفاظا على مكانتها وفرشت له الارض ورودا وسهلت له التحكم في السكان وترويضهم لخدمته مقابل عمولات وعطايا وامتيازات.
وبهذه الصفة تكوّنت طبقة شبه اقطاعية تملك الثروة والجاه والنفوذ والدراية بدهاليز السياسة كانت متحفزة للانقضاض على السلطة عندما نفضت الدولة الاستعمارية يدها من الارتباط شبه المستحيل بمستعمراتها كنتيجة من نتائج تداعيات الحرب العالمية الثانية بالاساس وليس كما يدّعي البعض تفاخرا انتصارا لثورة الجياع والمتمرّدين و«الفلاڤة».
وتحالف بورقيبة بعد ان صفّى خصومه بأعيان تونسورثة الباي منكود الحظ في ثروته وسلطانه وادخلهم في حكوماته المتعاقبة وقرّبهم اليه ومنحهم الامتيازات فاصبحوا نتيجة ذلك القوة الضاربة في البلاد وبيده? الحل والربط في عالم تتحكّم فيه دكتاتورية المال.
وهذه الدكتاتورية غير المضبوطة بعرف او بقانون او باخلاق ومبادئ ولا تعترف بالحدود في ظلّ دولة اغلب سكانها بسطاء وكادحون تؤدّي الى التهلكة وبئس المصير.
والدليل على ذلك أنّ تغوّل هذه الطبقات في ظلّ انفتاح اقتصادي متهوّر وغياب المحاسبة والشفافية وفي زمن يصعب فيه التعتيم والسكوت عن المظالم والقهر والتجاوزات اندلعت شرارة الثورة لتغيير هذا الواقع.
فدكتاتورية المال والجشع المبالغ فيه نحو تكديس الثروة للتمكن من النفوذ والسيطرة على المجتمع والتبجّح بالفساد خلق صراعا طبقيا بين القلّة الطفيلية والكثرة الكادحة من ناحية اولى وصراعا في قلب الطبقات الحاكمة والمتمكنة من الثروة من ناحية ثانية وهذا ما عجّل بالثورة وهروب بن علي.
فلأول مرّة اتّحدت ارادة الطبقة المتنفّذة بإرادة الشباب الثّائر والذي اشعل الفتيل القاتل للنظام دون وعي من انّه يعمل بالاساس لمصلحة طبقة حاكمة في الظل وبيدها الثروة وخيوط اللّعبة.
فالغاء السّياسي للمحيطين ببن علي وركود ديناميكيتهم الفكرية إلى حدّ الجمود والتقوقع والطاعة العمياء لدكتاتورية تفتّتت مع مرور الزمن لتصل إلى اتباع شبه غائبين عن الوعي تحكمهم غريزة «بافلوفية» نحو المال والفساد، جعل صيرورة التغيير شبه حتمية ومتأكدة.
والتغيير بعد كل ما حصل لا يمكن ان يكون بيد الطبقات الانتهازية واللاّهثة نحو الكراسي والنّخب المتعالية عن المجتمع والمرتمية في احضان السلطة دون نقد ومحاسبة.
ففي عهد بن علي، لهثت بعض الرّموز التي تدّعي أنّها من النخبة نحو مكان قريب من السلطة واصبحت تلوك شعاراتها وتدافع عنها باستماتة وتغطي على عيوبها وتزكّي قراراتها وهكذا ادامت سلطانه وقهره وفساده.
فالنّخب الانتهازيّة التي اعماها الجاه وبريق السلطة شاركت في تزييف الواقع وقلب المعطيات بوعي تام ودراية بما يحاك ضدّ المجتمع والوطن ولا يمكن ان تدّعي الآن ان بن علي غالطها ولعب بها
وهذه النخب تعود تدريجيا إلى السّاحة بتكوين الاحزاب والجمعيات لتلعب دورا على مقاسها دون ان تعترف باخطائها وتتمّ محاسبتها ولو معنويا لا يمكن ان نثق فيها وقد كانت بوق دعاية وتزييف في يد الدكتاتورية منذ زمن قريب وقد غيّرت الآن من لبوسها ومزّقت جلباب العار.
إذًا، تتمكّن دكاتورية المال الموروثة عن حقب زمنية متعاقبة وقديمة في كل مرة من السّطو على السلطة بعيدا عن الارادة الشعبية والاستحقاقات الوطنية وتتلاعب بالنخب التي يسكنها الطمع والجشع والنزوع نحو التعالي المزيف عن المجتمع فلا يمكن الحديث عن عبور الى عالم جديد ورؤى حداثية تقفز بنا نحو الرّقي والمواطنة والديمقراطية فالعيش بين قوسي الدكتاتوريات المالية والسلطوية وتعالي النخب التي تدّعي المعرفة لا تنفع معه آليات الانتخابات التي يمكن تطويعها وتزييفها عن طريق المال السائل والمناصب والحوافز والاحلام الورديّة.
ليست هناك تعليقات