كانت الحياة جميلة بدون تكنولوجيا، بدون هواتف كبيرة، أكبر، أو تُعادل، مساحة راحة اليد.
كانت العائلة تجتمع حوّل مائدة الوجبات الغذائية، ينظرون في أعين بعضهم البعض بلا خوف، يتأثرون لخبر موت جارٍ كانوا يبادلّونه السلام في منعرج طريق غير بعيدة عن المنزل، يبتسمون لنكتة، يتبادلون الحديث ويستمعون لنصائح ربّ الأسرة، والأم تحاول دائما أن تكون هيّ الخيط الأبيض في نزعات تنشُب فجأة.
كان جوّ العائلة حميمياً، تشعر فيه أنك لست وحدك، يلتفّ الجميع حول صينية الشاي كلّ مساء، يجلس الجد بهيبة ووقار، وكلّ من التحق بالتجمّع مُتأخراً قليلاً، يميل أولا للسلام على الجد، فيمد يده هو كسلطان حكم المغرب قبل ظهور الكهرباء.
الآن فقدت العائلة تلك الحميّمية، كل فرد فيها يهرب بعيداً، لغرفته، منعزلاً بهاتفه الذكي وضعاً له بدل القنّ السري العشرة، يعيش معه، وفيه يرنو للسعادة التي سرقتها منا التكنولوجيا اللّعينة.
كانت النساء أجمل بالسوّاك والكُحل وهن يلتقطن أولّ صورة، صورة سيحتفظن بها لأن يمتن، وبعدها سيعلّقها ابن لهن في صدر غرفة الضيوف.
كانت تتجمل بما وهبته لها الطبيعة، تلفّ شعرها "بفولار" تتدلى منه أقراصُ صفراء صغيرة تلمع وتُحدثُ رنيناً جميلاً كلما اصطدمتْ ببعضها البعض.
وأمام مصور تقليدي تقف مُبتسمة، خلفها "بوستيرة" كبيرة تغطي نصف جدار إستديو التصوير. وحين ينتهي المصوّر من التقاط الصور لها، يعطيها نسخة من "النيكاتيف"، تحتفظ به إلى جانب حليّ الفضة الخاصة بها، فهو بنفس أهمية تلك الحلي، لهذا كانت تُخبئه لجوارها.
كان لساعي البريد قيمة، يشبه فقيه الجامع، كلاهما يُحترم بنفس الحدة. تنتظر الأسرة رسالة من ابنها المسافر لفرنسا، تنتظرها لشهور طويلة، وخلال هذه المدة، كانت المشاعر تتّقد بنار الاشتياق، يزدادُ حبهم له. وفي أخر مقطع من الرسالة التي يرسلونها له، يكتبون بخطّ رديء، ولم يكن أبداً صدق المشاعر في جمالية الخط، عبارة:
" لا ينقصنا إلا النظر في وجهك الكريم".
أما الآن، ورغم تقريب المسافات، وصار بالإمكان الدردشة وجها لوجه مع فرد من العائلة يسكن بعيداً جداً، لم تعد المشاعر بذاك الصدق الذي كانت تحمله سطور الرسالة، وتحول أخر سطر فيها " لا ينقصنا إلا النظر في وجهك العزيز"، لكثير من "جيب ليّ معك".
صارت العلاقة تُشترى بهاتف، بحذاء رياضي، بساعة يد، أو بعلبة شكولاطة فاخرة، وما إن تنتهي قطع الشكولاطة وتذوب في الأفواه، حتى تذوّب مشاعر الشوق التي كنا ندّعيها أمام ذاك البعيد.
كان المناضل يرفض التقاط الصوّر، حريص على أن يتكلم باللسان أكثر من تسوية مُقدمة شعره أمام الكاميرا الموجهة له من هواتف كثيرة. واليوم الذي يلتقط فيها صورة، يكون مُجبراً، صورة اعتقاله من طرف المخزن، يؤرخون ليوم القبض عليه قبل الزّج به في سجن مظلم.
كان الأطفال ينتظرون أباهم العائد في مدخل الدوار، يشتغل في مدينة بعيدة، ويوم يُرسل رسالة يخبرهم بأنه سيعود في اليوم الفُلاني، وما إن يبزغ ضوء شمس الصباح، يقف الأطفال وأمهم فوق هضبة عالية يتطلعون لأضواء السيارات القادمة، يتعبون، فينام الأطفال في حجر أمهم التي لازالت تنتظر الزوج بلهفة.
عكس اليوم، صار للزوجين عالمهم الخاص، لا أحد ينتظر أحد، كلّ واحد فيهما مشغول بربط علاقات بعيدة، والأجدر، أن نجعل من علاقاتنا القريبة أسمى شيء ممكن أن نُقاتل لاستمراره...
كانت الحياة أجمل بدون تكنولوجيا.
|
ليست هناك تعليقات