جلسَ إلى الطاولةِ الملاصقة لشباكٍ مُطلٍّ على كتلةٍ من البيوت، يمتدُّ وراءها سهلٌ ملفّعٌ بالعتمةِ ثمَّ هيكلٌ ضخمٌ لجبلٍ أسوَد. فوق الجبلِ رقعةٌ رماديةٌ واسعةٌ تظهر عليها بقعٌ ضوئية، على استحياءٍ، ثم تختفي. لم يرَ القمرَ، لكنّهُ أحسَّ بشعاعٍ مائي يدلفُ من بين ما تيسّرَ من فَجوات.
أهلُ البيت نائمون.
حاولَ كتابةَ قصّةٍ. سافرَ في كلِّ الاتّجاهات، إلى البعيدِ وإلى القريب. ألقى نظرةً إلى الرّوزنامة وساعةِ الحائط في تأرجُحاتِها ودوراتِها الرّتيبة. تنفّسَ من الغبارِ المتراكمِ على الكتبِ المُكدَّسةِ فوق الرفوف.
لا شيء.
استحضرَ أيّامَ الطفولةِ والشّبابِ الأوَّل.
لا شيء.
استرجعَ رائحةَ العرقِ المتشبِّثة بثياب جدِّه المرحوم. تذكّرَ فتاةً جميلةً كانت تسيرُ في الزّقاق المُؤدِّي إلى عين الماء. كانت على رأسِها جرَّةٌ صامدةٌ في مشيِها، فيما تحرَّكت يداها على جانبَيها، مثل حركة عقربِ البندول. يذكرُ عينَيْها تضحكان فوقَ ثغرٍ يدّعي الرَّصانةَ والعبوس.
بُرت الفتاةُ وتزوّجت من رجلٍ لا تُحبُّهُ. ثغرُها يضحكُ كثيراً، لكن عينَيْها عابستان.
لا شيء.
لم يستطعِ الكتابة.
كان عليه أن يكتبَ. سافرَ في داخلِه، في كلِّ الاتّجاهات. سمعَ نبضَ قلبِه وأحسَّه يضربُ صدغَيْه. استمعَ إلى شهيقِهِ وزفيرهِ. فتحَ يدَيْه ووضعهما على الطّاولة أمامَهُ وتأمَّلَ ظهر الكفّين. أظافرُهُ طالت فوقَ المقبول. سيقصُّها قريبًا.
لا شيء.
لم يجدْ ما يكتبُه.
شعرَ بثِقَلٍ جاثمٍ على صدرِه. عليهِ أن يزيحَ هذا العبءَ. أشعلَ سيجارةً وأحسَّ بالإصرارِ مجسّدًا يطرقُ جمجمتَهُ. لا بدَّ أن يكتبَ كلاماً، كأنَّه يسعى إلى إنضاج حبَّةِ تينٍ فجَّةٍ بجسِّها وتكرارِ الضَّغطِ عليها. تذكّرَ أنَّه وأصدقاؤه كانوا يمارسون الضَّغطَ على حبَّةِ التين الفجَّةِ، حين لا يجدون ثمرًا ناضجًا، كأنَّهم يتفحصون إن كانت طريَّةً. الطَّراوةُ في هذه الحالةِ معناها النُّضج. هي لعبةُ الوهم. كانوا يطرُّونها بالضَّغط المتكرِّر، فينضجوها قسرًا. نُضجٌ بلا عسَلٍ.
لكن، لا شيء.
القلمُ والورقةُ ينتظران، تحتَ سماءٍ مقفرةٍ من أيِّ كلام.
صاحَ الدّيك.
أطلقَ المؤذِّنُ صوتَه داعيًا إلى الصَّلاةِ والصَّلاحِ والفلاحِ ونفضِ الجفونِ عن العيون. تبدَّلَت ألوانُ السَّهلِ والجبلِ والسَّماء.
لا شيء.
غابت البقعُ الضَّوئيَّةُ في الأعالي، وظهرت أضواء متفرّقةٌ وباهتةٌ في أطرافِ بعضِ البيوت. لا بدَّ أنَّ أصحابَها يبدأون العملَ باكرًا.
لكنْ، لا شيء. القلمُ صامتٌ والورقةُ مهجورةٌ.
لكنّه كتبَ، بشعورِ أنه ينضِجُ التّينةَ الفجَّةَ بالقوّةِ، وأنَّهُ يغتصبُ الورقةَ المسترخَية:
"المكان: لم يُحدَّدْ بعد.
"الزّمان: لم يحدَّدْ بعد.
"الأشخاص: سأتركُهم يكبرون تلقائيًا.
"الحكاية: ستكتبُ نفسَها.
"الحبكة: الحياة.
"النّهايةُ: سأنتظرُها".
اكتملت القصّةُ. وضعَ القلم. استيقظَ بعد إغفاءةٍ عميقة. هربتْ منهُ الأحلامُ فلم يُحاول الإمساكَ بأطرافِ خيوطِها. كان أهلُ البيت قد غادروا، كلٌّ إلى شؤونِه، وتركوه وحيدًا. توجّهَ إلى الطّاولة فوجدَ قصتَهُ مَيّتةً مِيتةً رحيمةً.
أخذ الورقةَ وشطبَ كلمةَ "سأنتظرُها" وكتب مكانها "الموت".
قامَ بدفنِها. لم يطلب لها الرَّحمةَ. مشى وراءها، مُنكّسَ الرّأسِ ووراءَهُ كلبٌ مُهجَّنٌ صغيرُ الحجمِ وطاعنٌ في السِّنّ. صدرَ عن الكلبِ ما يشبهُ العويل. فكّرَ هو في إحراقِ جثةِ القصّة وارتشافِ كأسٍ من الماءِ المخلوطِ برمادِها. لكنّه نظرَ إلى السّماء فأشفق. حفرَ في حديقةِ البيتِ حفرةً صغيرةً بأظافرِهِ التي آنَ أوانُ تقليمِها، وضعَ قصَّتَهُ فيها وهالَ عليها حفناتٍ من تراب.
على مقربةٍ منه، أطلقت شجرةُ اللّيمون حفيفاً وشذىً، ورقصتْ زهرةٌ بيضاءُ موشّاةٌ بخيوطٍ من لونِ الغسقِ، على حبلٍ من الضَّوء المُذهَّبِ كانَ تسربَ من بين الظِّلال.
فبكى.
كانت شفتاهُ مزمومَتيْنِ وعيناهُ تضحكان.
شطبَ في مُخيَّلتِه كلمةَ "الموت" من نهايةِ قصّتِه الميّتة وكتب:
"النِّهايةُ: البدايةُ".
|
ليست هناك تعليقات