أخبار الموقع

اهــــــــلا و سهــــــــلا بــــــكم فــــــي موقع مجلة منبر الفكر ... هنا منبر ختَم شهادةَ البقاءِ ببصمةٍ تحاكي شَكلَ الوعودِ، وفكرةٍ طوّت الخيالَ واستقرتْ في القلوبِ حقيقةً وصدقاً " اتصل بنا "

« الجُوكَر » ... قصة بقلم : فريد غانم



  « الجُوكَر »
    بقلم : فريد غانم    
   17/1/2018


« مجلة منبر الفكر »
  فريد غانم       17/1/2018


 أطفأت السَّماءُ في تلك اللَّيلة أضواءَها، تعرَّت في الخَفاءِ، ألقَتْ أرديَتَها من وراءِ ستارةٍ من خشبِ الأرْز، أزالَتْ مساحيقَها بزخّةٍ من المياهِ العُلويّة، وذهبَت إلى نومِها باكرًا تحتَ لحافٍ من الغيمِ الدّاكن.
كأنّها ليلةٌ مقطوعةٌ من لوحةِ العَدَم.

استغرقْنا في لعبِ الورقِ حتّى ساعةٍ متأخّرة، أو هذا ما أشارتْ إليْهِ ساعةُ الحائطِ الرّخيصةُ الّتي عُلِّقَتْ بلا اكتراثٍ فمالَت إلى الجهةِ اليمين، وراحت تعرُجُ. على زجاجِها خالٌ أسودُ، لا بدَّ أنّهُ برازُ ذُبابةٍ منزليّة. سمعتُ في ما مضى أنَّ الذّبابَ المنزليَّ يعيشُ شهرًا قمريًّا واحدًا، إذا لم يتعرّضْ لحوادثَ أو إصاباتٍ قاتلةٍ في منتصفِ الطّريق. لم يأخُذْ أحدٌ بالحسبان أنْ يتغيّبَ القمرُ، بسببِ شُحوبٍ مُكثَّفٍ مثلًا، أوْ أنْ يسقطَ في إحدى المعارك أو أن يأكلَهُ البحرُ، فيحيلُ عُمْرَ الذّبابةِ إلى خربشةٍ.
فهمتُ الآن.
فهمتُ لماذا يسْلَحُ الذّبابُ على شاراتِ الوقت والصُّورِ التّذكاريَّةِ.

لا أحدَ يكترثُ لأعدادِ الموتى من الذّبابِ وعصافيرِ الدّوريِّ والقططِ والماعزِ والجواميس والطّواويسِ والفقراءِ، في الانفجاراتِ الهابطةِ من فردوسِ ملوكِ العالم وكهنتِهِ. تقفزُ عنهُم الإحصائيَّاتُ، باعتبارهم خارجَ المعادلة. أمّا نحنُ فقد لعِبْنَا الورقَ في جوٍّ من الانتحارِ الجماعيِّ البطيء؛ دخانُ السَّجائر أسقطَ رائحتَهُ على الملابسِ، ألقى قطرانَهُ على الرّئاتِ، وفَرَّ من الشَّبابيك المُحَملِقةِ بلا تعابير. من الغرفِ الدّاخليّة انبعثَت أصواتُ مذيعينَ ومذيعاتٍ تتحدّثُ عن الحروب الدّائرة في كلِّ مكان. سقطَ صحنٌ وانكسرَ. صرخت امرأةٌ تعنّفُ صغيرَها. طفلٌ ولولَ بُرهةً وسكَتَ. بين النّشرةِ والنَّشرةِ مسلسلٌ تُركيٌّ يُعيدُ انتاجَ المسلسل السّابق.

كانَ علَيَّ أنْ أعودَ إلى منزِلِ أُسرتي مشيًا على الأقدام. لم أتأخّر إلى هذه السّاعة من قبلُ. تمنّيت أن تنهضَ السّماءُ وتشعلَ مصابيحَها. تمنّيتُ انْ تعودَ العقاربُ إلى الوراء، ليتاحَ لي أنْ ألعبَ جولاتٍ إضافيّة، أعوّضُ فيها خساراتي المتتالية. الجوكر القبيحُ خذلَني وناصبني العداء. كان خصومي يكتمُونَ ضحكاتٍ ضبابيّةً، خلفَ دخانِهم، ويتحدّثون بعربيّةٍ مترجمةٍ عن لغاتٍ أجنبيّة. عقربُ السّاعةِ يتسلّقُ بصعوبةٍ على دائرةِ السّاعةِ المائِلةِ، لكنْ لا يبدو أنَّ ميلان السّاعةِ إلى اليمين يؤخِّرُهُ. العقربُ لا يعرُجُ. ما يزالُ يحملُ دهشةَ النّاس ورُعبَهم ويصعدُ إلى القمّة، فيسقطُ منهُ الوقتُ ويتدحرجُ نحوَ القاع. يلحقُ بِهِ. يحملُهُ، صخرةً من الهمومِ والرُّعب، ويصعدُ. قمّةٌ وحضيضٌ يتواليان. سيزيف!
قالَ الفائزونَ إنَّ مَنْ يخسرُ في لعبةِ الورق يكسبُ في معاركِ الحياة. غيرَ أنَّ الجوكر يشمتُ بي، ويضحكُ من بينِ الأوراق. إذا كان الأمرُ كذلك، فلماذا سمَحَ الفائزونَ لأنفسهم بكسْبِ الجولاتِ الخمس وتحالفوا مع الجوكر، فيهدرونَ بذلك مكاسبَهم في الحياة الحقيقيَّة؟ بلاك إز بيوتيفُل!
مُعدَمونَ يلملمونَ جوائزَ التَّرضِيَةِ، في شكلِ قواريرَ طينيّةٍ مملوءةٍ ببقايا الهواءِ المتساقطِ عن موائدِ اللِّئام. 
ماذا لَوْ فرضَ الملوكُ وسدنَةُ المعبدِ دفعَ أثمانِ الهواء؟ 

كانَ عليَّ أن أغادرَ وحدي. خيّمَ الصّمتُ على الغُرفِ الدّاخليّة، ما عدا أصواتِ أبطالِ فيلمٍ للرّسومِ المتحرّكةِ مُدبلَجًا للعربيّة الفُصحى. الكلُّ مُدبلَجٌ في هذه النّواحي؛ البنوكُ والسيّاراتُ ودروسُ الكيمياء والجغرافيا والدّبّاباتُ والطّائراتُ والفنادقُ والأغاني وأحمرُ الشّفاه والعشقُ والأحذية الشّاهقة واللّحى والرّوزنامات. الكلُّ مدبلجٌ من الأجنبيّة للعربيّةِ، ومن العربيّةِ للعربيّة.
يبدو أنَّ الطّفلَ نامَ منذُ ساعاتٍ. عرضوا عليَّ المبيتَ عندَهم، غيرَ انّني رفضتُ العرضَ، لتفادي القيلِ والقالِ عن شجاعتي ورجولتي في هذه المرحلةِ الحرِجَةِ. كانَ عليَّ انْ أثبتَ أنّني لا أخشى العتمةَ المُكدّسةَ فوق الطُّرقاتِ، ولا أخشى المرورَ في المكان المسكون بحكايات الرُّعب. وكانَ عليَّ فوقَ هذا وذاك أن أتحرّرَ من أنيابِ نظراتِ الجُوكر.

خرجتُ أتلمّسُ طريقي. صوتُ شخيرِ السّماء يملأُ الطَّريق. رائحةُ فساتينِها المُمزّقة واقفةٌ على أشجارِ الحواكير المُفترَضَة. مِزَقُ ثيابِها الدّاخليّة ترفرفُ على الأعمدة والصّواري وعلى طلائعِ قوافلِ المحاربين. اغتصاباتٌ تملأُ المدى. جثثٌ مغتصبة. جيَفٌ مغتصبة. شوارعُ مغتصبة. أرصفةٌ مغتصبة. كيسٌ من النّايلون يركبُ على ظهرِ شتلةِ ريحان. عقولٌ مثقوبةٌ بمساوكَ من خشبٍ متسوِّسٍ. سماءٌ مغتصبةٌ لا تُبالي. قمرٌ مختبئٌ. رجالٌ بأرديةٍ نتنةٍ يصطفّون في طابورٍ ويدخلون.

على مدخلِ طريقِ المقبرة، فيما كنتُ أراوحُ في مكاني، خطوةً للامامِ وخطوةً للوراء، لمحتُ شيخًا مُلفَّعًا بالبياض. قالَ من بعيد: "لا تَخَفْ يا بُنيَّ".
لا بدَّ أنّهُ شيخُ القبور.
غابَ القمرُ في تلكَ اللّيلة، كأنَّ السّماءَ جرَّتْهُ معها إلى فراشِها، فبدا الشّيخُ قمرًا فضّيًّا يمشي على أرضٍ سوداء.
تسمّرتُ في مكاني وانعقدَ لساني.
اقتربَ منّي، في حركةٍ مُطمئِنة، وقالَ إنّهُ سيرافقُني على طولِ الطَّريقِ المُلتفِّ حولَ الكرةِ الأرضيَّة.
أشارَ إلى الطّريقِ الذي يزنِّرُ المقبرة. مقبرةٌ مستديرةٌ مزنّرةٌ بزنّارٍ ترابيٍّ لا ينتهي. مَنِ الذي شقَّ هذا الطريق المُرعب؟ أكادُ اتذكّرُ؛ هنا تسيرُ الحشودُ في الجنازات. ومَنْ عاشَ مات. يقولُ الجوكر إنَّ من يُنْجِبْ طفلًا إنّما يحكُم عليه بالموت. أضدادٌ تقصفُ رأسي. وهنا، على هذا الطريق الملتفِّ في دائرة مفتوحةٍ، أتذكّرُ أيضًا الحشودَ وهي تهزجُ في الأعراس. مآتمُ وأعراسٌ على خَصْرِ المقبرة.
كان قلبي يدكُّ ترابَ الطّريقِ دَكًّا. اختلطت عليَّ الأمور وتعطّلَت حواسِّي فلمْ أعدْ اميِّزُ شيئًا، ما عدا عبقَ شجرةِ الآسِ المتمسّكةِ بالسّياج. تذكّرتُ: نسمّيها في مناطقنا "القُبّار". هذا ما أبلغني بهِ المرحوم والدي، حينَ كنّا نأكلُ جُبنةً مالحةً وأزهارًا مُخلَّلةً، في مطعمٍ في العاصمة. العاصمةُ التي تتناقَلُها الجيوشُ على الهوادج. صديقُنا قال أنّهُ يعرفُ الزّهرة. قال إنَّ اسمها لطيفٌ. وقال والدي، مشيرًا إلى الكُراتِ المُخلَّلةِ الصّغيرة: هذا زهرُ القُبّار قبلَ أن يتفتّح.

وضعَ الشّيخُ الأبيضُ يدَهُ على كتفي وقال: ممَّ تخافُ أيّها الشّابُّ؟! يبدو أنّكَ تُصدّقِ الخرافاتِ عن الأمواتِ الذين يخرجونَ من قبورِهم في اللّيل. هذه خرافاتٌ، مجرّدُ خرافات، با بُنيّ.
تذكّرتُ الجوكر. رأيتُهُ. كان يضحكُ فوقَ سورِ المقبرة. أسرابٌ من الفراشِ النّاري تطيرُ وتنطفئُ فوقَ الشّواهد. حقولٌ من العشبِ البرّيّ انبثقت من جلدي دفعةً واحدةً. انتفخت ملابسي وامتلأت بالشّوك. 

كانّني مشيتُ. لا بدايةَ للطّريق ولا نهاية. دائرةٌ مفرغة. حزامٌ حَوْلَ خَصْرِ مقبرةٍ شاسعةٍ. فجأةً، التفتَ إليَّ الشّيخُ الأبيض أو هكذا تهيّأَ لي، خفضَ صوتَهُ وقال:
الحقيقةُ أنّني أفهمُك تمامًا وأغفرُ لكَ رهبتَكَ. فقد كنتُ أنا أيضًا، مثلَك، أصدّقُ هذه الخرافات وأخافُ من القبور، قبل أن يدفنوني في هذا المكان.
في اللّيلِ التّالي، فيما اختبأَ القمرُ خلفَ صفٍّ من أشجارِ السَّرو على طولِ السّور الشرقي، وواصلت السّماءُ شخيرَها في الدّروب، تلفّعتُ أنا والشّيخُ بالأبيض وخرجنا في جولةٍ على الطَّريقِ الذي يُزنِّرُ المقبرة. كانَ أطولَ منّي قليلًا. قطَفْنا أزهارًا بيضاءَ من شجرِ الآسِ ومن ياسمينةٍ تعمشقتْ على حائطٍ، ونثرناها على الحجارةِ الشَّاخصة.
سألتُهُ: لماذا اخترتني بالذّات؟
قال: هل أعجبَتْكَ جنازتُك؟
قلت: الحقيقةُ أنّني تغيّبتُ عنها. كنتُ مشغولًا في تخييطِ ردائي الأبيض. لكنّني سمعتُ أنَّني حظيتُ بجنازةٍ مَهيبة وقيلتْ فيَّ أمورٌ لا تخصّني. ويبدو لي انَّ ما خسرتُهُ في لعبة الورق كسبتُه في كلمات التّأبين.
قال: اخترتُكَ لأنّكَ آمنتَ بالمعجزة. المعجزاتُ، يا بنيَّ، أوهامٌ. لكنّ فعلَها فتّاكٌ فقط في مَنْ يؤمنُ بها.
خيّمَ الصّمتُ. كان القمرُ يتلصَّصُ من بين أشجارِ السَّرْوِ. مرَّت مجموعةٌ من الفتيان، تحدّثوا عن خطّتِهم للسّطوِ على شجرة مشمش. مرّ آخرون. لم يلتفتوا إلينا أو كأنّهم لمْ يرُونا. أحدُهم اخترقني ولم ينتبِهْ. تحدّثوا عن القتلى الذين يُدفَنون في مقابرَ جماعيّة في بلادٍ تدّعي أنَّ إكرامَ الميّتِ دفنُهُ. حمدوا اللهَ على الموادّ المتفجّرة لأنّها تُحوّلُ البعضَ إلى رمادٍ، فتُكرمُهم بجنازةٍ هندوسيّةٍ على الأقلّ. المقبرةُ العاديّة، مثلُ هذه المقبرة، صارت رفاهيةً. قال أحدُهم.

قبيلَ الفجرِ، هبطنا عن سطحِ الجيران، وعدنا إلى ظُلُمات النّهار. قالَ لي الشّيخ: تذكّرْ أمرًا مُهمًّا. نحنُ لا شيء. نحنُ غيرُ موجودين. اكتبْ عن ذلك ما تشاء.
وطلبَ منّي أن أذكرَ أنّني أكتبُ قصّتي هذه تحت اسمٍ مستعار وأنّه لن يكونَ لي متّسعٌ من الوقتِ للكتابة. ففي النّهارِ نقضي وقتنا في لعبِ الورقِ والنّرد. وفي اللّيل نتجوّلُ في رؤوس النّاسِ، ونتسلّقُ على مخاوفِهم.
سألتُ الشّيخ: ومن سيصدّقُ حكايتي لو نشرتُها؟
قال: لَنْ يصدّقَها أحد. اكتبْها بلغةٍ أجنبيّة. على أيّةِ حال سيواصلُ الجميعُ تعليقَ عيونِهم على عقاربِ السّاعة.
سكتَ لحظةً وقال: اللّيلةَ القادمة سننتقلُ إلى مقبرةٍ جديدة.
لم أسألْ عن السّبَب.
نبّهني صاحبي.
أفقتُ. سمعتُ انفجارَ صحنٍ في غرفةٍ داخليةٍ. "انكسرَ الشرُّ"، جاء صوتٌ أجشُّ من الدّاخل. بكى طفلٌ. انفجاراتٌ تتدفَّقُ إلينا من فيلمِ إثارةٍ أميركيّ. من بين ورقِ اللّعب يُطلَّ الجوكر برأسِهِ ويبتسم. أرى الشّيخَ الأبيض. خسرتُ الجولةَ السّادسة. قلتُ: سأرتاحُ قليلًا.
استلقيتُ. وعلى زجاجِ ساعة الحائطِ العرجاء، فيما كان العقربُ يهوي نحو القاع، حطّتْ ذبابةٌ وطبعتْ خالًا ثانيًا فوقَ خطِّ منتصف اللّيل.
ثمَّ طارَت.


‭‮

  اقرأ المزيد لـ فريد غانم


لإرسال مقالاتكم و مشاركاتكم
يرجى الضغط على كلمة  هنا


ليست هناك تعليقات