إطلالة:
منذ سنوات والرّوائي المبدع محمّد صلاح الدّين بن حميدة يظهر علينا بروايات ضمن سلسلة سمّاها "الحياة بالعرض". وقد انتهج نهجا خاصّا في كتابتها، وجعل من الواقع المحيّز بالزّمان والمكان الفعليين، مرجعا أساسيّا لصياغة أحداثها وشخوصها، ممّا أكسبها طعما مميّزا وحرارة مخصوصة.
وإنّي لأدرك مدى الجهد الذي بذله الكاتب من أجل الظّفر بالماّدة الخام لأعماله، فهي لم تأته على طبق من فضّة. بل فرض عليه نهجه جهد البحث والسّهر والتنقّل، حتّى يحيط بتفاصيل عالمه المزمع تحويله إلى دنيا الحبر فيما بعد.
تخصّ هذه القراءة إحدى هاتيك الأعمال بالتّناول، وهي لا تدّعي عمق الإحاطة "بسمفونية الأحزان"، ولكن حسبها أن تلقي عليها شيئا من الضّوء، وتثير من خلالها بعض القضايا الأدبيّة والفنّية في عالم الرّواية.
الرّواية في سطور
تروي قصّة شريحة من النّاس، اختاروا أن يعيشوا الحياة بالعرض، فاختارت لهم حتميّة قوانين تلك الحياة مصيرا بالعرض أيضا. على قدر اتّساع خطواتهم في عالم مشوّه، اتّسعت خطواتهم في سحيق الهوّة.
قصّة بشر اختزلوا حياتهم في الشقّ الأسفل من لقمة الطّين. فأخلدوا إلى ظلام الأرض وتصوّروا أنّ الحياة على رحابتها، وما أودع الله فيها من أسرار، لا تتجاوز شطآن الشّهوة وبريق المال.لقد اختارت "سمفونية الأحزان" أن تقف موقف الشّاهد على تحوّلات عميقة يشهدها المجتمع التّونسي في الآونة الأخيرة. (1)
-------------------------
(1) صدرت رواية سمفونيّة الأحزان سنة2009
فهل هي تدقّ جرس الخطر وتنبّه إليه قبل انتشاره على المدى الواسع؟
إنّ القيم والمفاهيم الجديدة التي هبّت مع رياح العولمة، وانهيار الحدود والسّدود بين شعوب الأرض. أربك تلك التي لا تزال في ذيل القافلة وأذهلها عن حقيقتها وحقيقة هوّيتها ومبادئها. فإذا أشواق السّماء واعتمار القلوب والرّؤوس بالأحلام الكبيرة، تقوم قيامتها وتصير إلى رماد.
استطاعت هذه الرّواية أن تفضح أولائك المنتفخة أوداجهم، الذين يحسبون أنفسهم من أعيان الأرض، وحياتهم سلسلة متكرّرة من المآسي والأحزان. ها هي مصائرهم السّوداء تشهد عليهم بالخواء، وتبرهن على خيبة تصوّرهم للحياة، وتثبت مرّة أخرى، أنّ المبادئ التي اعتنقوها والدّروب التي ساروا فيه، لا تؤدّي إلاّ إلى جرف هار، ولا تطلّ بهم إلاّ على الضّياع والتّلاشي.
"سمفونية الأحزان" استطاعت بشكل مّا أن تلقى الضّوء على مصدر الأموال والثّروات التي آلت إلى غير مستحقّيها، عن طريق الجشع والخيانة والغدر والكذب والغشّ والخداع وأكل أموال النّاس بالباطل... لعلّها أجابت عن أسئلة بعض البسطاء عندما يمرّون بالقصور الشّامخة، والسيّارات الفارهة: أنّى لأصحابها كلّ هذا المال، والبلاد صغيرة، والموارد أصغر؟
هذا وإنّ الرّواية لم تكتف بشهادتها على الوقائع والأحداث، بل شهدت للكاتب أيضا. شهدت له بسعة اطّلاعه وإلمامه الواسع بدقائق وتفاصيل ما كانت لتخطر على بال الكثيرين منّا. كان في عمله كحامل آلة تصوير. مرّة يوجّهها إلى أغوار النّفس البعيدة، فيتركها تمسح دروبها وزواياها ومناطقها النّائية. وتارة يوجّهها إلى العالم الخارجيّ فيصوّره ويحسن الإحاطة به، حتّى لكأنّه يُرينا إيّاه رأي العين. وطورًا يوجّهها إلى الشّخوص، فلا يغادر منها شاردة ولا واردة.
إلاّ أنّ السّؤال الذي يُطرح في هذا المقام:
- إلى أيّ مدى استطاعت الرّواية أن توظّف ذلك الكمّ الهائل من المعلومات والتّفاصيل توظيفا فنيّا، لا يأتيه الخلل من بين يديه ولا من خلفه؟
لمحة عن أهم الشّخوص:
محمود الغندوري:
شخصيّة يرى فيها الكثيرون أنفسهم، ويرون فيها مصيرهم الحتميّ، لاسيما إذا اتّبعوا الخطوات عينها. ريفيّ أصيل، وفد على المدينة بحثا عن لقمة العيش، وعن نقطة انطلاق يبتدئ منها. من الصّفر بدأ، غير أنّ نفسه التي أُشربت مبادئ وقيما عالية، مهّدت له عند أولي الثّروات...
ومع الصّبر والكفاح، استحال التّراب على يديه ذهبا. سرعان ما لمع نجمه، وهبّت عليه نسمات الرّخاء، فصارت له الدّنيا ذليلة طيّعة، مكّنته من نفسها حتّى ملك منها ما ملك. ولكن ما هي إلاّ عثرة وانكفاءة ونكوص عن مبادئه القديمة، حتىّ عجّل عليه المصير الأسود فطواه في أحشائه شرَّ طيّةٍ، جاعلا منه كتلة من الأحزان والفواجع. وهكذا ذهب عنه ذلك السّيل العرم من المال والجاه والنفوذ... مسكين هو. دمّر نفسه، وخرّب بيته بيده..."ما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون "
سارّة:
تلك الجميلة اللّعوب، استثمرت جسدها وحسنها إلى أبعد حدّ. فاتّخذت من أنوثتها وسحرها سلاحا جرثوميّا فاتكا. ما حلّ في قلب رجل أو خالط حياته إلّا دمّره تدميرا، وقلب مصيره رأسا على عقب. جسد متوثّب للذّة دائما، ونفس يجرفها الطّموح إلى القّمة. في جعبتها رصيد هائل من المكر والخداع، وقدرة مذهلة على تحويل ثروات الرّجال إلى جيبها. وما زال مسار هذه الشخصيّة يتطوّر، حتّى أفصح عن جملة من المفاجآت، لعلّ أهمّها ارتباطها بزوج متفسّخ الكرامة والضّمير، حوّلها إلى امرأة بغيّة تعمل لصالحه.
ذلك لأنّه مخلوق مشوّه، ما انفكّ يتخلّى عن الإنسان الذي بداخله، لينقلب في النّهاية إلى رجل مسخ، يبيع نفسه وعرضه وشرفه مقابل مكسب حقير، وثمن أحقر...
في لحظة من اللّحظات تتحوّل مشاعر القارئ نحو سارّة إلى الشّفقة. خصوصا وهو يكتشف مدى البؤس الذي يحيط بها. ابتداء من بيت أبيها وأمّها، مرورا ببيت زوجها. لكن في لحظات أخرى يطفو على سطح مشاعره الازدراء والاحتقار. إذ الجمال الظّاهر، لا يمكن أن يغطّي على ظلام الروح ودمامتها...
كان لا بدّ لطريقها أن ينتهي بها إلى الجرف، حيث تبدأ سلسلة انهياراتها المريعة. الحلقة الأولى، تتمثّل في بيع زوجها تحويشة عمرها، بعد أن أوهمها بمشروع كبير يقيمانه خارج الحدود. فلمّا قضى منها الوطر واستوفى حاجته، فرّ بشقاء سنواتها الطّويلة، مخلّفا وراءه روحا مدمّرة ورصيدا فارغا... ويا ليت عجلة الانحدار توقّفت عند هذا الحدّ، إذ دفعتها إلى درك آخر من دركات المأساة. سوّلت لها نفسها ما سوّلت في حقّ ضحيّة جديدة أصيب بلوثتها هو الآخر. كالعادة دمّر بيته بسببها وخسر كلّ شيء. فلم يبق أمامه إلاّ أن يصنع نهايتهما المأساوية بنفسه... سقوط من حالق في قلب الجحيم...
نضيرة:
بناء هذه الشخصية في الرّواية كان متفرّدا من حيث المسار والانتقال من طور إلى طور، ومن حال إلى حال.نضيرة، تلك الفتاة المخضرمة التي وصلت إلى المدينة وهي لا تزال على حيائها. لم تلبث في غياب الأب وتقهقر سلطانه، وانحصار نفوذه في أجواء عائليّة متوتّرة مطبوعة بالحرمان والخصاصة، أن أخذت تكسر عن نفسها القشرة، وتخرج وليدة جديدة إلى عالم يجتاحه الطّوفان. طوفان الشّهوة بوجوهها الكثيرة. طوفان الحياة بالعرض.
وما فتئت تنتقل من رحيق إلى رحيق مثل نحلة رعناء. مخلّفة وراءها إرثها الريفيّ الكبير، ومرضاة والدتها ذات الأوجاع والأحزان، حتّى التقطتها خيوط عنكبوتيّة. سلبت منها إرادتها، وصيّرتها رقيقا أبيض. تباع في أسواق الدّعارة والجوسسة ضمن شبكة عالميّة. لم يعد جسدها مُلكا لها بمفردها. لقد صار بعد سلسلة شديدة من الاستلاب إلى وعاء مستباح لذوي المال والنّفوذ. بيد أنّ العجلة المنحدرة إلى أسفل لا تعرف التوقّف حتّى تبلغ النّهاية. والخيبة إذا فتحت أبوابها لا يرضيها غير القرار الذي لا نهوض منه. لم يعد يكفيها
أن يأكل الأمراء من جسدها، ومن ورائهم شركة "ماكدونالد"، بل مواخير فرنسا كان لها فيها نصيب كذلك. نافذة أخرى أطلّت منها على الهوّة... واستمرّ الحقراء والأدنياء يجدون ضالّتهم في جسدها المستباح، إلى أن أحاطت بها القاضية، وضربت مناعة جسدها في الصّميم، فحوّلتها فريسة إلى السّوس. سوس الإيدز.
ومن تلك العتبة تبدأ معاناة أخرى...
الوجه الآخر لسنفونيّة الأحزان.
إشارة:
السّؤال الذي يُطرح دائما:
- - كيف تستطيع الرّواية أن تواجها التحديّات الجمّة التي تقف في طريقها؟
- - وكيف يمكن أن تجد لها قاعدة عريضة من القرّاء. ومن ثمّ إبداء رأيها في الكثير ممّا يجري؟
اليوم، عندما ندخل المكتبات العموميّة، أوحين نزور معارض الكتب، أوحين نرى عصارة الأفكار والأعصاب وأحلام السّنين ملقاة على قارعة الطّريق في شكل فوضويّ. المنادي عليها كالمنادي على الرّديء من الغلال والخضار. حتما نصاب بالصّدمة والأسى، ونوقن بأنّ أحلامنا وأشواقنا، ليستا بمنأى عن ذلك المصير.
لقد انكمشت عادةُ القراءة في بلادنا على وجه الخصوص، وفي العالم العربيّ إلى حدود دنيا، وصارت من عادة نخبة النّخبة. ذلك أنّ رياحا عاتية هبّت على حياة الإنسان المعاصرة فغيّرت من خرائط اهتماماته وميولاته، وحملت سلوكه على أنماط جديدة لم تكن مطروحة من قبل. بيد أنّ هذه المشكلة لا تقف عند هذا الحدّ. فثمّة أضراب من الفنون الأخرى ساعد على انتشارها الواسع، وسائل الاتّصال الحديثة بإمكاناتها الضّخمة، وقدراتها الفذّة على الدّخول إلى كل بيت وإلى كلّ قلب. إنّه عصر الصّورة، والأخبار الطّازجة وانفتاح السّموات على السّموات. عصر الفضائيات والأنترنت وانتشار المعلومة في سرعة الضّوء.
الرّواية إذن، أمام تحديّات جمّة، إن لم تغيّر من جلدها وتبحث لها عن استراتيجية جديدة ضاعت في الزّحام ودُفنت تحت أنقاض القديم والجديد معا.
وعليه فإنّ المطلوب من الرّوائي أن يعيد طرح أسئلته:
- - لماذا أكتب؟
- - لمن أكتب؟
- - كيف أكتب؟
- - كيف أستوعب الوافد الجديد من المتغيّرات والفنون؟
- - كيف تمتصّ روايتي كلّ ذلك، وتعيد صياغتها وفق رؤيتها هي، دون أن تذوب بصمتها في بصمات طرائق تعبيريّة كثيرة أنتجها الواقع الجديد؟
ليس بدعا أن نقول، إنّ الرّواية اليوم في حاجة إلى تحريك السّائد وخضّه. والذّهاب بعيدا في تمرّدها، شريطة أن تضيّق من حدقتها جيّدا وتبني عوالمها وفق تصّور مدروس يتّسم بالدّقّة والنضج. إنّها في حاجة إلى دماء جديدة تضجّ بالقلق وتتحرّق شوقا إلى الآفاق وإلى تلك المناطق التي لم تطأها الأقدام من قبل.
وهي في حاجة كذلك إلى استيعاب القواسم المشتركة التي يمكن أن تشترك فيها مع الفنون الأخرى. مثل حاجتها إلى الوعي الحادِّ بالثّيمات التي يمكن أن تتفرّد بها لتظلّ في حوزتها بلا منازع. إنّها معادلة معقّدة تستوجب على الرّواية أن تضع في اعتبارها كلّ المعطيات باختلاف مساحاتها وألوانها...
ما الرّواية إلّا بيت جميل نحبّ أن نشيّده قبل أن يظهر إلى الوجود بحجمه وبعده وشكله وألقه. ليس ثمّة من سبيل إلّا أن يتعهّده المهندس بالدّرس والتّمحيص ثمّ إظهاره على المخطّط. والمهندس البارع صاحب الخيال الخصب والأفق الفسيح، لا يعتمد معمارا واحدا يطبّقه في كلّ المشاريع وعلى جميع المساحات.
بل هو يبدّل وينوّع ويأخذ من هذا إلى ذاك، ولا يملّ أن يرقى سلالم الابتكار والإبداع، مستمرّا في العروج إلى ما لا نهاية.
وإنّي لأعي جيّدا، إنّ الإبداع المثمر يتمرّد على القوالب الجاهزة، ولا يمكنه أن يتنفّس وينمو داخل التوابيت.
ثمّة في دهر المبدع نفحات لا يدري متى تهبّ عليه نسماتها. إن تعرّض لها كان إعجازه ملفتا يصعب تكراره في الزّمان والمكان. وهذا لا يناقض ذاك، متى عرفنا كيف نحقّق التوازن داخل المعادلة. الثّابت والمتحوّل سيّدان متوازيان كاللّيل والنّهار، لا يمكن لأحدهما أن يمحو الآخر. لا بد إذن أن نعي الثّوابت والمتغيرّات.
وعلى ضوء ذلك يبدأ الإبداع. وإنّ السّيمات التي يمكن أن تتفرّد بها الرّواية وسط زحمة الفنون لكثيرة.
ويمكن تلخيصها في كلمة واحدة. بيد أنّ وراءها ما وراءها. الشّكل، نعم الشّكل. إنّه ليس مجرّد واجهة للعمل، أو مجرّد وسيلة نمرّر بها الأفكار. إنّه عالم أرحب من ذلك.
ولعلّ الفقرة التي سأسوقها الآن تلقي الضّوء على جانب منه. يقول الدكتور "محمد برادة" ضمن مداخلة له في كتاب "الرّواية العربية. ممكنات السّرد"(ص 30):
"من هذا المنظور لا يكون الشّكل محايدا. لأنّه يتدخّل في ترتيب فوضى العالم وينظّم السّرد وعلائق الشّخوص، وتوجيه الرّؤية إلى العالم.
- - ما الذي يعطي للعالم معنى؟ المحايثة أم التّعالي (ترانسا نداس)؟
- - فينومينولجية الأشياء أم لا مرئيتها؟
- - المنطق الخطّي، أم فسيفساء التّشابك وانبهام المقاييس؟
بهذا المعنى يكون التركيب الفنّي المحدّد للشّكل حاملا لخلفيّة ميتافيزيقية يصدر عنها الرّوائي... لأن نسج عالم روائي لا يمكن أن يتمّ من دون تصّور مّا للعالم الذي يحيط بنا..."
يتبع...
|
ليست هناك تعليقات