أخبار الموقع

اهــــــــلا و سهــــــــلا بــــــكم فــــــي موقع مجلة منبر الفكر ... هنا منبر ختَم شهادةَ البقاءِ ببصمةٍ تحاكي شَكلَ الوعودِ، وفكرةٍ طوّت الخيالَ واستقرتْ في القلوبِ حقيقةً وصدقاً " اتصل بنا "

« انتظار ملتبس » ... قصة بقلم : عطا الله شاهين



  « انتظار ملتبس »
  بقلم : عطا الله شاهين
   1/2/2018
  


« مجلة منبر الفكر»    عطا الله شاهين     1/2/2018


انقادتْ تلك المرأة ذات ديجورٍ بعد أن صمتت أغوارها، وراحت تُبدّل هدوئها المحيّر والمرتاب، الذي لم يكن يفرّقه غير حسٍّ قاصٍ، فذهبتْ تصغي لهبّات الرياح التي لطالما ظلت تنعش وجهها المجعّد من جنون العيش في صحراء صامتة، فأحسّت بالوهن الذي ظل يلفّ رأسها المثقل بالأحزان، زاد من وهن رأسها الارتياب المكفهّر والانتظار الملتبس لكائنات غريبة كانتْ تنهمرُ من الجلَد الأزرق لتنصتَ لزعيقها وبكائها المجنونين، والحسّ الكثيف من مذياعٍ صغير وضع بالقرب من فراشٍ متهرئ وانْطرحتْ عليه جثّة إنسان فاضلٍ.. عادة ما كانت تفيق من ظلال انهزاماتها السابقة أمام سحنات الجنود وبنادق الهلاك، التي طالما اخترقت كيانها في محاولة منها لفضّ قسوة ما بداخلها وما تكوّر عميقا في فتحة شهامتها، فذهبت، برعبِ شدّتها، تطعم النار المراكمة في قلبها ومواضع بدنها النحيل.

أفاقت جثة ميّتة محفورة في طيات الفراش حتى صارت تلك المرأة تسمع طرطقتها، انه البزوغ الذي ينبعث معه بغتة، تصحو بكامل هيبتها، تسحل كيانها خاطة خيطا خياليا أزرق سيكون من العسر إزالته أو تبديل مسالكه. تمسح الدموع عن وجنتيها أمام مرآة قديمة فيها كسور، فتستغرب: كيف يتأتى لهذه المرأة التي ما إن قادتْ الاحتجاجات السلمية قبل زمن، وما أن أشهر بدنها المُترفّع في الطرف الآخر من الميدان حتى تملك الأسماع والأبصار وجمعتْ اهتمام المواطنين في الميدان إلى هتافها ومحياها وإلتماعة مقلتيها، المرأة ذاتها التي ما أن بدأت بتلاوة الكروب المنقوشة على حيطان روحها، حتى جرّت الجمع إلى دنيا أخرى ترتمي في ناحيتها بوادٍ طافح برائحة المكيدة، وترى طواف الهامات المعلّقة منذ دهر من الزمان، تستغرب إذ تكتشف مرة أخرى بأن هذه المرأة هي ذاتها التي تمسح دموعها وتتبوّل ويرتعد بدنها من القهقهة في أوقات عدة، وكأنها مثل أي واحدٍ من هؤلاء النّاس أو مثلنا بكل الأحوال!
ما انكفأت تلك المرأة تدري ما يزعجها في هذا الديجور وما الذي ينتشر في روحها، بصّات الحيرة إلى درجة أن تحاول ألي بخيالها عن إبصار أجزاء الصورة المبهمة، التي تكوّنت في هامتها فنبّهت شعورا بالضجر فيها.. أهو ألملل فهي لا تدري؟ إنها تعيش يوما لا يشبه باقي الأيام. ستبقى تتذكره بمجمل ملامحه، رغم تبدّل السحنات والحواضر والأمكنة، وحتى لو امتد بها العمر لمئات السنين.

تجرّب تلك المرأة لملمة نزوحها مرّة أخرى فينارُ في عقلِها فضاءُ جدرانٍ تبصرتها مُطعّمة بالنقوش العربية، التي أثارت اهتمامها اليوم عندما وطأت رجليْها أزقة بلدة أحبتها، فتفاجأت بتجمع الأجساد ولهفة السحنات الناظرة إلى الميدان، الذي تربّع عليه الناس المعذّبون، الذي رغم انه يقاسمها البيت وحبّ المرأة العجوز نفسها، إلا أنهما عاشتا متنائيتين حتى أنها تجهل تأثيره. وما أثار انتباهها إشارة الآخرين إليها وترديدهم المتكرر: إنها المرأة المعذّبة وسرعان ما يداخلها إحساس بالاعتقال، إذ إنهم لا يقدرون عن الإشارة إليها بكنيتها، ولكنها اليوم وللمرة الأولى منذ سنوات طويلة تدخل إلى دنيا والدها المبهمة، في محاولة لاكتشاف بعضاً من سرائره لربما تبلغ إلى تحديد منابع القوة الكامنة فيه، والتي تحتاج منها الكثير لتشتيت دواماتها اليومية كي تفتش عن معنى أو شهوة في التحرّر، ولكنها تعجز عن التفاعل مع جوهرها وما يقف خلفها. ربما هو فشلُها الباطني عن الانقياد وراء المكائد، أو تصوّرها الآخر، الذي يقف بها متنائيا عن ما تسمّه وسواسا.. 

هكذا يكسحها أللا حقّ من طوقها بينما ترى ألعاشقين ينصتون بجنون إلى حسّها المتكسّر السحيق، والذي كان يطوف أرجاء الدنيا مكررا بدايات حكاية طالما سالت دموعها في تواجد ذكراها. كان للسحنات القانطة والأشباح المصغية أثر كبير خلّى ظلالاً متشابكة في أغوارها. وما حكايتها وإعادة حكايتها وقدر الحنان معها سوى برهان واسع من أنها حكاية إزاحية لما يجري لهذه الكائنات الضعيفة القوية التي لا تتمكن من القعود لانتظار هلاكها ساكنة. بينما ذهب والدها القاعد في وسط البلدة يستمدّ قواه لينتقي معاني قصّته رامياً على الماضي روحها، وعلى القصة أبواب سيرته المفرطة في ذاتيتها ومأساويتها حتى صارت تصغي لصوت ضرب أعقاب البنادق على بدنه وضرب العصي على جسده في أقبية التعذيب المبثوثة. كانت تنظر في مقلتيه وهما تشقّان أمواج التماعاتهما، فتدرك بأنه إنما يتلو كلمات الكارثة المكتوبة فيه وفيها. كان يتلو الماضي المدوّن في مقل العائشين، وفي بقايا الجثث المهملة في ساحات المعارك الكثيرة في فضاءات هذه البلدة أو تلك. كان يسعى طرد الهلاك الحاضر بهلاك أكثر سطوعا، أكثر دنوّا والتحاما من كائنات أهلكتها الدويبات منذ مئات السنين تمعن في قسوتها. 

أحسّتْ لأول وهلة، ومنذ أعوام بعيدة بأنها باتت دانية منه درجة الالتحام، درجة الانصهار مبطلة البون الذي كونته السنين بينهما مرة واحدة والى السرمد، فها هي تقود وجهة مشاعرها نحوه في لحظة اندفاع غريبة. هناك شيء مبهم ومريب يجوس حواف المكان ويعلق في قلبها، يملأها بخفقان القلب العلقم والانتظار الملتبس، انتظار مريب يجلب لها الحزن أينما ذهبت تترصّد المرأة العجوز، تجهّز أنفاسها وأصواتها المسائية كعادتها، لكي تجد ملجأً لروحها المضطربة، التي تقطنها وساوس هذا اليوم الغير عادي، الذي سيعلق بذاكرتها، ولن تتمكن الانحلال منه طيلة السنوات والبلدات والسحنات التي ستشوفها، وستبلّل شفتيْها بإعادة علقم الحديث عنها البتة. سترى في هذه الأيام ما لن تشهده في السقائف المقفلة منذ زمن ولّى، وبين أيادي نساء الحزينات النائيات الفاقدات لأزاوجهن، اللواتي لا تتشابك في مقلهن علامات الكرْب القاسية، والتي ترتسم كصور هلاك في مقلتي والدتها الجالسة على الحصير، التي بدأت للتّوّ بإعداد وجبة أكل لها. وعندها لا يصلها منها غير إعادة باهتة لكلمات تمتلئ بالها. تحسّ بها عن قريب ولا يقطعها عنها سوى سور قديم مبني من الطّين لا يشح بإعادة اهتزازاته..  

تفرّ كل مداركها بغتة. تحرّك دفين يخلق، يتمثّل، يزهو.. تشعر به يتواثب على سطح السقيفة، تنطّ خائفة فيباغتها تحرك آخر. تسرع صوب السّدة متخطيةً أبيها المهمل في امتزاجه بالأصباغ. تتبعها أمّها بمقلتيها المكفهّرتين بالانزعاج، أتكون وسوسات سُهْدها. تجرّب أن تفيق من اندهاشها المجنون. تشتهي لو تشقّ المكان، إلا أن الأكوام المتجمهرة كدوائر خوف تسوّج المسافة محوّطة حول المرأة العجوز التي لم تنقطع عن ترنيم أدعيتها وهي بمكتمل وقارها.

كان من الجلي أن لا احد باستطاعته ردعها أو الدوران عليها في حين تعيشه وقد أحاطتها آلات القتل، التي لا احد يعرف مصيرها سواها. لغتْ متطلعة إلى سقف السقيفة وما أن لمست بيدها على قبر أبيها حتى كرّت الأجساد الممتلئة بظلال الهلاك عليه ورفعته بملابسه إلى خارج السقيفة غير مكترثة بعويل الوالدة الجالسة على الحصير. تلفّ باطنها في سكوت، وتسعى أن تلقى أي حيّز آخرٍ لم تكن فيه في وقت مرّ عنها سريعا.


  اقرأ المزيد لـ عطا الله شاهين


لإرسال مقالاتكم و مشاركاتكم
يرجى الضغط على كلمة  هنا 


ليست هناك تعليقات