للتعرف على نجاح نظام معين في تسيير دواليب الدولة هو التعرف على رأي الخبراء والمفكرين والباحثين وكذلك رأي المواطن البسيط الذي لا ناقة له ولا جمل في السلطة وليس له منصب يدافع عنه وينافق من أجله الحاكم وينظر للأشياء بعين الرضاء حتى وإن كانت الوضعية مزرية وجد سيئة وذلك حال المنافقين والراكبين في ركاب السلطة. لكن المشاهد العادي والذي يذهب إلى السوق ويركب مع البسطاء ويتجول في المدينة بدون حراسة يعرف بالتأكيد ما آلت إليه أوضاع البلاد.
لقد كان التغول في نظامي بورقيبة وبن علي هو السائد بحيث كل شيء يمر بين أيدي الرئيس وقد كان القرار الفردي طاغيا وحاسما فلا ترى تهاونا أو تقاعسا أو توقفا عن التقدم إلى الأمام وقد نتج عن هذا التوجه في الحكم والذي كان معمما بجميع البلدان العربية ودول العالم الثالث وليس خاصا بتونس أن تمكنت الدولة رغم قمع الحريات أن حققت انجازات معتبرة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. فالانضباط المؤسساتي وتغول النظام خلق أجيالا منضبطة في العمل والكد واحترام الوقت مما منح المؤسسة انتاجية معقولة وخلق مناخا هادئا وصورة إيجابية تجلب المستثمرين ومانحي الأموال والشراكة الاقتصادية.
وككل نظام متغول فقد تصيبه نشوة الحكم وبحبوحة الحياة والشيخوخة فتنحل قبضته المتهورة وتسكن مفاصله الرتابة والجمود وقد تذهب به الرياح لقمع معارضيه وهو الذي لا يقبل الرأي المخالف ولا يريد من يقاسمه السلطة فتلتهمه من حيث لا ينتظر نيران الثورات وتصيبه في مقتل أحكام مكر التاريخ وصيرورة الزمن وتقلبات الدهر اللعينة.
والحاكم المتغول المستبد في حكمه لا يجلب لدائرته غير المنافقين والانتهازيين والطامعين فتحدث بينهم مبايعة مغشوشة مبنية على الطاعة العمياء والتزلف والتكلف والاحتقار المبطن فهم أول من ينتفضون عليه ويدقون المسامير في نعشه دون رحمة ويفرون من مركبه الغارق بين الأمواج بحثا عن سلطة جديدة كقارب للنجاة يحتمون به ثم يواصلون لعبة الدجل والنفاق.
فالسلطة حسب المفهوم البدائي للسياسة هي لعبة الكراسي والتلاعب بعقول المواطن والاستحواذ على الثروة وتوزيعها للحصول على الولاء والطاعة قصد التمكن من المنصب والبقاء فيه أكثر مدة ممكنة. ولذلك ترى أن تركها بطواعية أمر شبه مستحيل وفي غاية الخطورة وفي غالب الأحيان لا يترك الحاكم بعده غير الخراب والدمار والأشلاء وشعوبا محطمة وإفلاسا منقطع النظير يصعب بعده الانطلاق من جديد. فالأنظمة المتغولة لا تعترف بالمواطن الذي له حقوق وواجبات إلا من خلال اللوائح والقوانين المحدثة أساسا للتسويق الخارجي والوطن بالنسبة لها هو ملكية خاصة ومؤبدة لا يشاركه فيها أحد.
وعلى أنقاض الأنظمة المتغولة الآفلة يصعب البناء خاصة إذا كان المجتمع غير متجانس في هويته ومرتكزاته الثقافية والعقائدية والمذهبية لأن التناقضات في هيكلية المجتمع الذي نفخ في نارها الاستعمار ثم الحاكم العضوض الذي جاء من بعده ليتحكم في المشهد باستعمال الفرقة وقد قيل '' فرق تسد'' وذلك ليس من الاعتباط في القول بل نظرية أبدعها العرب في عرفهم السياسي المجرب.
وهكذا ندخل في عباب الفوضى إذا انحل عقد الحاكم المتغول لأن الدولة تصبح ضعيفة بتلاشي منظومة الاستبداد والتحكم ومؤسسات الضبط الاجتماعي وغياب حس المواطنة والتوافق السياسي لأن الثقة شبه منعدمة بين الفرقاء والعلاقات ملتبسة نتيجة الهاجس التاريخي وحرب الزعامات وألغاز الماضي.
ومهما يكن صدق النيات وحسن المقاصد لدى الساسة فالإرث الثقافي والتاريخي سيكون حاجزا كبيرا أمام إرادتهم في التغيير، فالممارسات ما زالت غارقة في الابتذال والسطحية ك''الأقربون أولى بالمعروف''
والمحاصصة الحزبية والترضيات واقتسام المناصب وغياب البرامج والتشبث بأشخاص دون غيرهم والمماطلة وتمطيط الوقت والتلاعب بعقول الناس البسطاء وبيعهم الأوهام والهرولة نحو الكراسي.
فالسلطة هي تفويض من الشعب لتحقيق نتيجة معلومة في نطاق مدة زمنية محددة والمعارض ينتقد ويصوب ويحتج ويقدم الاقتراحات والمواطن يراقب ويحكم عن طريق الانتخابات وكل من لصقت به شبهة فساد أو تعذيب أو عدم كفاءة لا يمكنه تحمل مسؤولية عليا في الدولة وعاش من عرف قدره.
ثم إن المناصب لا تعني شيئا للمواطن بقدر ما يهمه البرنامج والأهداف ووضوح الرؤيا والاطمئنان على حياته من كل النواحي وخاصة الأمنية والمعيشية، فالكلام يباع بالأطنان الآن في سوق السياسة دون أن نرى طحينا ونورا في آخر النفق.
*عز الدين مبارك كاتب ومحلل سياسي
ليست هناك تعليقات