يملك الناقد الفذ ( حسين سرمك ) رؤية نقدية متكاملة , في التحليل والتشيخيص , يضاف اليها مهنته الطبية الاختصاصية في علم النفس , وتوظيفها في منجزاته النقدية الثرية , في تشريح وتحليل النص في الرؤى النقدية , وفي الاسلوبية النقدية التي يتميز وينفرد بها , في المنهجية الشاملة او الجامعة بين ( الادب وعلم النفس ) ,
وبرز في هذا المجال بشكل كبير في الابداع النقدي , نحو جماليات النقد المنهجي والموضوعي . اي الناقد يضع النص الروائي تحت مختبره التشريحي , مثل ما انجزبشكل متألق في رواية ( قصة عائلة ) للروائي قصي الشيخ عسكر , وضعها في سرير التنويم المغناطيسي , يستبطن ويستنطق النص الروائي , وفق معارفه الثقافية الواسعة . التي تشمل ( الادب النقدي وعلم النفس ) , ليكشف المدلولات الدالة الظاهرة والمخفية في بطن المتن الروائي , وفق دراسة موضوعية شاملة , في السايكولوجيا , السياسية والاجتماعية في علم النفس , في براعة التحليل والدراسته , وفق ما تفرز العين المجهرية المختبرية , في مرآتها الكاشفة , في غوصها العميق في دواخل العمل الروائي , وتبيان دوافعه وتداعياته ومسار تحرك وتفاعل الاحداث المتلاحقة والدراماتيكية ,
في براعة قلم ناقد محترف , في عملية اعادة صياغة العمل الراوائي , وفق معطيات النقد المعاصر , في الدراسة والتحليل , وهي تبرهن على الجهد النقدي المثابر والكبير , في الدراسة التحليلة الشاملة , وفحص المذكرات والوثائق والمدونات كمواد خام للرواية , التي اعتمدها في المتن الروائي لرواية ( قصة عائلة ) . وهي تتناول اعقد حقبة سياسية عصيبة , في تاريخ العراق السياسي , الذي اخذت منحى الصراع السياسي العنيف , بعد سقوط الملكية , وافراز اشكال العنف السياسي , في ذبح وسحل العائلة الملكية ورموزها في الشوارع ,
وظهر على السطح الصراع العنيف بين قوتين او تيارين سياسيين متنازعين , تيار اليسار الشيوعي , وتيار القومي / البعثي من الطرف الاخر . وهذه القراءة هي استقراء للدراسة النقدية لكتاب ( البطل البريء ) للناقد الفذ حسين سرمك , في مدخل الدراسة التحليلية النقدية , تتوقف في حثيثات بدايات فعل الجريمة , دوافعها وتداعياتها والمعطيات التي فجرت الصراع السياسي , الذي انشطر في ارجل اخطبوطية , خرجت عن المنطق والمعقول , وألهبت الشارع في هزات عنيفة عاصفة من الشحن السياسي , المشحون في كسر العظم بين الطرفين ( اليسار مقابل تيار القومي / البعثي ) آنذاك ,
وكذلك في المعيار بين الجريمة والبطولة , رغم ان الضابط ( هاني ) بريء من فعل البطولة , ومن فعل الجريمة والقتل العقيد جلال
"اقتربت من الجثة وطلبت من بعض الجنود , أن يقلبوا العقيد على ظهره . . فبدأ لي وجهه وسط ضباب النور , موشحاً بالكدمات والبقع الزرقاء .. . عيناه جحظتا كأنهما تحلقان فيَّ .... كل ملابسه ممزقة . بدلته تلطخت بالقذارة فأختلط الدم بالوحل . هذا الوجه الوسيم والشعر الخفيف ينبيء عن صورة مرعبة . تلك الدقائق رأيت في وجهه الملطخ بالدماء , مستقبلي الغامض , حياتي الجديدة كأن الجنود التابعين لي قتلوني معه .... قتلوا مستقبلي"
لذلك فأن جريمة القتل , التي لم يقترفها اصلاً وبريء منها , لكنها اخذت ابعاد خطيرة في الشحن السياسي المضاد , وزاد من وتيرة تصاعد النزاع السياسي العنيف , وخرجت الجريمة من منطقها الموضوعي , الى ابعاد خطيرة , وقعت على كاهل الضابط البريء ( هاني ) , في التطرف النقيض بين الطرفين , فجانب من الصراع السياسي , يعتبره عملية القتل بطولة تستحق التقدير , بينما الطرف الاخر المضاد , يعتبره متهم بجريمة القتل , هذه النزاعات السياسية اخذت جانب الاسقاط والتسقيط المتنازع ,
وانسحبت بظلالها الى الشارع . في عواصف سياسية هائجة بالشحن المضاد , لذا فأن موضوع البحث النقدي , التي تناولته الدراسة النقدية الشاملة , في التحليل العلمي الموضوعي , في سايكولوجيا النفس والشارع السياسي , وافرزت الدراسة التحليلة , افرازات الطرح والطرح المضاد , الاسقاط والاسقاط المضاد , في طيات المتن الروائي لرواية ( قصة عائلة ) تناولته من جوانب وزوايا متعددة , وفق ما جاء في المذكرات والوثائق المدونة , وخرجت بهذه المسلمات السبعة :
1 - الواقع الفعلي يتحدث عن جريمة القتل , كما ورد في المتن الروائي في ثنايا الحبكة الفنية القديرة
2 - جريمة القتل اتخذت سمة سياسية لطرف سياسي , ضد طرف سياسي اخر في طابع سايكولوجي سياسي وعسكري , في قتل العقيد ( جلال ) على يد جنود محسوبين على اليسار , ووهو انتهاك صارخ للاعراف والسياقات النظم العسكرية المعروفة .
3 - الاستفادة من مدونات والوثائق التي اعتمدتها في احداثيات المنظور الروائي والذي سلط الضوء على جريمة القتل ودوافعه وتداعياته , في الاحداث المتلاحقة والمتسارعة بعد فعل الجريمة .
4 - البراعة في توظيف عملية الاسترجاع الزمني ( فلاش باك ) , وتسليط الضوء عليها , في نشوء العنف السياسي , الذي اتخذ شكل من الاشكال البشعة والهمجية , التي بدأت مفاعيلها في قتل وسحل العائلة الملكية في الشوارع , وهي بمثابة تدشين العنف السياسي في الصراع الدامي
5 - الحدث المركزي في الرواية هي جريمة القتل , وتحميل الضابط ( هاني ) توابعها في الاتهام بارتكاب القتل لدوافع سياسية
6 - محاولة تبرئة الضابط ( هاني ) من الاتهام بفعل ارتكاب الجريمة , رغم انه غير موجود ساعة قتل العقيد وسحله من قبل بعض الجنود , لكن هذه البراءة كانت تعزف في الفراغ , بل تطورت بشكل دراماتيكي , بين فعل البطولة , وفعل الاتهام , فهو البطل البريء , والمتهم البريء , وكذلك هو من ناحية الاخرى , المجرم المتهم القاتل , اي انها انساقت الى ظروف قصرية غير منطقية , واصبحت قضيته تجارة سياسية , لاهداف وغايات سياسية مضادة ومتناقضة , وكل طرف له استنتاجات لا موضوعية ولا عقلانية في حثيثات الجريمة .
7 - الجهد الروائي للرواية , استغرق ثلاثة السنوات من الجهد والمتابعة الحثيثة والدؤوبة , في تدقيق المذكرات والوثائق التي في حوزة ( هشام ) شقيق الضابط المتهم , وهو المشارك المحور الاساسي في شخصية الرواي , في رواية ( قصة عائلة ) , واستخلصت الدراسة النقدية , في تحليلها وتشخيصها حثيثات العمل الروائي , في ظواهره الذاتية والموضوعية ,
استخلصت هذه الحقائق الظاهرة على المكشوف :
1 - الحقيقة الاولى : ظاهرة اشتعال عقلية الجماهير وتفاعله في فعل الجريمة , وطريقة تفكيره السايكولوجيا , المتولدة من الشحن السياسي المضاد , الذي خرج عن سياقات المنطق والمعقول , وتحركه سايكلوجي الذي فرض نفسه على واقع الاحداث , دون عقل وتفكير , في سايكلوجية الجمهور او الشارع , وترك بصماته على تحركاته المجنحة بالتسيس المنحاز والمتطرف ( قد تكون الظاهرة الابعث عن الدهشة , من ظاهرات أشتعال الوحدة العقلية للجماهير التالية : فأياً تكون نوعية الافراد الذين يشكلون ( الجمهور النفس ) وأياً يكن نمط حياتهم متشابهاً او مختلفاً , واياً تكن طبيعة اهتمامهم وامزجتهم ودرجات ذكائهم , فأن بمجرد تحولهم الى جمهور يزودهم بنوع من الروح الجماعية , وهذه الروح تجعلهم يحسون ويفكرون بكيفية مختلفة تماماً عن الكيفية التي سيحسس بها ويفكر ويتحرك كل فرد منهم لوكان معزولاً ) ص58 .
2 - الحقيقة الثانية : الجمهور المسيس بتعصب في تحركاته في التعصب السياسي المحتقن , وتحركه غزائر منفلة عن ضبط الاعصاب , وتقييم الامور بموضوعية , فأن غرائزه تدفعه الى العنف , وهو في حالة التماهي في الفعل , تبعاً لسلوك السياسي الذي ينتمي وينحاز اليه ( اوتوماتيكياً ) بدون استشارة العقل , لذلك اختلفت الرؤى في فعل الجريمة القتل ضمن الجنون السياسي السائد , فمن يعتبر الجريمة عمل بطولي والفاعل يستحق البطولة , وعلى النقيض من يعتبره مجرم متهم يستحق العقاب , هكذا كان الرأي العام , يضع نفسه فوق القانون والمحاسبة .
3 - الحقيقة الثالثة : العقل اللاشعوري هو المسيطر في طريقة تفكير الجمهور العام وطريقة تحركه اشتعال اللاشعور , فيتصرفون دون رؤية بصيرية لواقع الحال . وانما اتخاذ قرارات جماعية بلهاء دون حساب العواقب المترتبة عليها .
4 - الحقيقة الرابعة : ( تذويب الشخصية في اللاوعي , المحكوم بقوى اللاشعورية الطاغية ,بالانسان المنوم معناطيسياً , فيما أن حياة الدماغ تصبح مشلولة لدى الانسان المنوم , فأنه يصبح عبداً لكل فعالية اللاواعية , ويصبح منومه قادراً على توجيهه الوجهة التي يشاء , بعد ان غدت الشخصية الواعية مغمياً عليها , واصبحت اردة التمييز والفهم ملغاة , والحال ان المنوم بالنسبة الى الجمهور النفس , هو المحرض ) ص143 .
5 - الحقيقة الخامسة : دخول الدين في حلبة النزاع السياسي , فتحطمت قيمة الدين والسياسة معاً , لانها خلطت الامور في الغموض والضبابية للواقع الموجود , فأنقسم رجال الدين بين القوى السياسية المتصارعة ,بين التأيد او الرفض والسخط , أو بين التمجيد الافعال الهجينة , أوبين اشعال الشقاق والخلاف الى اقصى درجة من العنف , فقد لعبت الفتاوى الدينية دوراً تخريباً , في اهدار حرمة الدم , بشكل رخيص ومبتذل , بذريعة محاربة الكفر والالحاد , اي ان تسيس الخطاب الديني لمآرب واحقاد متنازعة , هذه الظاهرة المدمرة , ساهمت في تخريب قيم المجتمع , فقد ضاعت المقاييس في رجل الدين , هل هو مسؤول حزبي ؟ ام مسؤول النفاق السياسي المدمر؟ .
6 - الحقيقة السادسة : . الخطاب الديني المسيس ساهم في تمزيق اواصر المجتمع , فقد اصبح جزءاً من الصراع السياسي الناشب والعنيف , فمنذ ذبح العائلة الملكية , ووقوف الخطاب الديني , الذي ساهم في الاحقاد السياسية واضطراب الاوضاع كلية , حسمت بمجيء الانقلاب الفاشي للبعث في شباط الاسود عام 1963 , ودخل العراق في مسلخ القتل والذبح . الدم يجر الدم
7 - الحقيقة السابعة : هي التلاعب في عواطف عامة الناس لغايات سياسية وتحريكها كدمى سهلة وطيعة , مهما كانت الغايات ( ايجابية أم سلبية . طيبة او شريرة . لذلك تتميز هذه الافعال الجماهيرية بطابع المزدوج . فهي مضخمة جداً ومبسطة جداً في آن واحد , لهذا فأن الفرد المنخرط في الجمهور يقترب كثيراً من الكائنات البدائية . فهو غير قادر على رؤية الفروقات الدقيقة بين الاشياء ) ص176 .
هذه هي الخطوط العامة للدراسة النقدية الشاملة , التي فككت مفاتيح رواية ( قصة عائلة ) ووضعتها تحت مجهر التحليل النقدي الحصيف والبارع في الجمالية الابداعية
---------------------------------
× كتاب : البطل البريء
× تأليف : الدكتور حسين سرمك حسن
× الطبعة : عام 2018
× اصدار : مؤسسة المثقف العربي . سدني / استراليا
× نشر وتوزيع : دار امل الجديدة . دمشق / سوريا
× صفحة : 267 صفحة
|
ليست هناك تعليقات