ليس هناك من شك أن الغالبية العظمى من الموظفين بجميع رتبهم واختصاصاتهم يعملون بجد وتفاني في ظروف صعبة ويتقاضون أجورا زهيدة ويكابدون قر الشتاء وحر الصيف وتعاسة النقل، مرتهنون للبنوك لبناء قبر الحياة وينفقون الغالي والنفيس لتربية أبنائهم وتعليمهم في بيئة متعفنة وبائسة وينتظرون منهم أن يعملوا ويودعوا بطالة حارقة ومؤلمة قد طال أمدها.
الموظفون الذين يسمعون كلاما من سفهاء السياسة ومحترفي المنابر الإعلامية والدجل وساكني الأبراج العالية لا يرقى للحقيقة الدامغة ولا يحلل الأسباب العميقة لبعض الخلل هنا وهناك أو بعض التقاعس في مكان معين والشاذ يحفظ ولا يقاس عليه. فأيام الحراك الاجتماعي والجمر لم نجد مسؤولا رفيعا واحدا بمكتبه إلا بسطاء الموظفين الذين باشروا أعمالهم رغم المخاطر وتوقف وسائل النقل عن العمل وأمنوا الخدمات لطالبيها وبذلك بقيت دواليب الدولة تعمل بدون توقف.
فغياب هياكل الإدارة العصرية وتفشي الفساد والمحسوبية وتبني قانون الولاءات الحزبية والعائلية عوض التصرف في الموارد البشرية حسب تمشي الكفاءات و تجميد الكثير من الموظفين الأكفاء الذين لم ينخرطوا في منظومة الفساد والمحسوبية وإبعادهم عن دوائر القرار والفعل ليخلو المكان للانتهازيين والموالين وأصحاب المصالح الشخصية والحزبية حتى يفعلوا ما يريدون دون رقيب أو حسيب تعد من الأسباب المحبطة للموظف فتؤثر على مردوديته دون قصد منه بل الكثير من الأشياء تكون خارجة عن إرادته مثل أدوات الانتاج ووضوح الرؤيا والبرامج والتوصيات.
فلا يمكن أن نصدق أن موظفا متخرجا من أرقى الجامعات وصاحب خبرة يتقاعس أو يغادر عمله إلا بفعل فاعل وبإرادة عليا من السلطة الفاعلة في المؤسسة أو المصلحة أو الهيكل. فلو كانت هناك برمجة للأعمال حسب كفاءة كل موظف وتكوينه وشفافية في الحصول على الحوافز والترقيات والتوظيفات في الخطط مع التقييم والمتابعة لما تقاعس أي موظف.
فالعدالة الوظيفية مفقودة منذ الانتداب وكذلك التطور المهني لأن كل شيء ومنذ البداية تحكمه قوانين المحسوبية والولاءات والفساد الإداري والمحاصصة الحزبية والعشائرية والجهوية والسلطة التقديرية الواسعة النفوذ بحيث المحاباة وتبادل المنافع والتعالي والاحتقار هو سيد الموقف.
وأكبر دليل على ذلك الهجرة القسرية للأدمغة والكفاءات للخارج وهذا يعتبر في العرف الاقتصادي هدر الموارد بحيث يتم انتفاع الغير بالمجهود الوطني بدون مقابل لأن العنصر البشري تم تكوينه وصقل مواهبه من المال العام ومجهودات العائلات. فالظروف والبيئة الإدارية جد متخلفة ومتجمدة لا يطيب العيش فيها ولا تنتج غير الكلام ومسودات من القرارات التي كثيرا ما لا تجد صدى في الواقع وبالتالي لا يتم تطبيقها ولا تعتمد إلا بصفة انتقائية وارتجالية وجزئية.
ورأيتم كيف تم توظيف وادماج المتمتعين بالعفو التشريعي العام دون المرور بالتكوين المناسب والتأهيل مما تسبب في اضطراب وتململ لدى الأعوان القارين المحرومين من الترقيات وهذا من شأنه التقليص من رصيد الكفاءة بالمؤسسة وتسميم أجواء العمل وإدخال التجاذبات الحزبية في صلب الإدارة.
وأغرب ما يوجد في إدارتنا الموقرة هو الخلط بين أصحاب الشهائد العليا وبين الذين يحصلون على ترقيات عن طريق المناظرات الداخلية التي هي عبارة عن شبه امتحان في الثقافة العامة وكثيرا ما يقع تنظيمها كل سنتين أو ثلاثة وشروط النجاح فيها جد ميسرة ولا ترقى بأية حال من الأحوال لمستوى الدراسات الجامعية النظامية.
وبهذا فقد أصبحت إدارتنا الموقرة تمنح تحايلا على القانون شهائد جامعية عوض الجامعات فخلال عشرة سنوات أو أكثر بقليل يصبح صاحب الرابعة ابتدائي ''باش مهندس'' أو متصرف عام دون أن تطأ قدماه الجامعة الذي لا يعرف حتى بابها وتعطى لهؤلاء الخطط الوظيفية وهم في غالب الأحيان أميون لا يفقهون شيئا غير حمل الملفات ومداومة الحضور والاجتماعات.
ولهذا فتأهيل الإدارة من الأمور الضرورية والعاجلة ومن أوكد الأشياء هو تطبيق منظومة التصرف في الكفاءات والقطع مع قانون المحسوبية والولاءات والانتماءات الحزبية وتنظيم العمل حسب البرامج المحددة مع التقييم الفوري والتفريق بين أصحاب الشهائد الجامعية وأصحاب المناظرات الداخلية على مستوى التأطير والمسؤولية والخطط الوظيفية مع منح حق مواصلة الدراسة الجامعية لمن يرغب في ذلك بشروط.
فالموظفون هم الجيش الناعم للدولة والدم الذي يجري في دواليبها فإن صلحوا صلحت وتطورت وإن تم إفسادهم وتهميشهم وتجميدهم والتنكيل بهم فلن تكون هناك تنمية مستديمة وقادرة على الخروج من التخلف والفقر والتهميش.
ليست هناك تعليقات