الواحدة بعد منتصف الليل
عاد تشرين ببرده الخفي ينخر في القلوب فيوجعها وتصرخ دون صدى صوت في صمت الكلمات يئن على شراع اللغة فيسقط المعنى ليتعلق كدمعة سقطت بين الامواج في بحر من حبر احمر
ظلمة تخيم على غرفتها كأنها منفية خارج هذا العالم لا شيء يشبهها هنا الوحشة تملأ ذلك الفراغ في جدران هذا المنفى كل الأشياء تبدو كئيبة وكانما أصابتها نوبة قلبية
قمر شحيح الضوء حجبته ستارة من سحاب ارجواني وحدة تغلف تلك الغرفة الباردة فتشعر وكأنها على وشك الإنهيار والياسمين حزين يتهادى فتحسبه دمع من أعين ملائككة ساهرين على أعتاب هذا العتم
خريف أخر يشعل حرائق الشوق بجمر الانتظار اللامتناهي وربما هو موت مؤجل يفتح أبواب القلب لعرائش الحنين ويشرع نوافذه لرياح تلتهم أوردة الحياة في لوحة تشرينية الولادة ويطفئ شمعة أخرى من عمر الزنابق
ترن ساعة الحائط بصدا حزين كقداس في صلاة الجنازة في هذه الساعات يتكاثر السواد قنديل وحيد معلق فوق الباب بالكاد يستطيع الناظر إليه أن يلمح شعاعه حتى الفراشات لم تقترب لتلتف حوله لم يغرها نوره الخافت كأنه سراب بعيد والليل يرتل مع الحفيف الممتزج بدموع الثكالى صلوات لللذين تاهوا في سراديب العتم على أرصفة الانتظارات اللامبالية الهدوء قاتل سكون مخيف يعبث بقلوب العاشقين فيكسرها بنوبة مفاجئة
ها هنا تجلس وحيدة تتسكع كالمتسولين على لحن أغنية لم تكتمل بعد تمر بين الأفواه مكسورة النظرات تحاول أن تستجمع قواها لتعود وتقف بتوازن دون جدوى جسدها منهك متهالك تشعر بثقل في رأسها كأن دوامة تثور في دماغها فيزوغ بصرها كان الوقت يمر ببطء بمحاذاتها حتى انهك نبضات قلبها الطفولية وشحب لونها زرقة عينيها تحولت للكحلي الداكن كسماء شتوية الصورة
تنظر إلى نفسها ترنو بحنان إلى هذا السواد من حولها عل حدثا ما يفاجئها فيعيد لوجهها شيئا من حمرته ويزرع على الشفاه المتيبسة من شمس الغياب ابتسامة ربيعية كتراتيل السنونوات في صلاة الفجر
تستعيد فصلا من عمر مضى وانتهى
تفتح باب بيتها تمشي بتعرج باتجاه تلك الطريق تسقط تتكئ على زجاج قلبها المتناثر على هذه المرايا العاتمة لا شيء يعكر صفوتها تحت هذه الرذاذات الخفيفة الناعمة كأنها تصغي لرعشة الحمى في صدى نفخة من صدر عازف ناي حزين تتسرب إلى مسامعها فترتعش وتغوص في مسامات جلدها الرقيق رائحة التراب المبلل بماء الحياة جسدها ملقى على الأرض متعب مشطور كوتر كمان تمزق من كثرة ما عزفت عليه أنامل الغائب لحنا وداعي النغمة لا حراك ولا روح ولا صوت
ها هنا تعرت ملامح المكان حولها من مكوناتها تحت هذه السماء الضبابية
تقول في نفسها والكلمات تتلعثم على شفاه الصمت لا أملك من الوقت ما يكفي لانتظر غدا ربما لن يأتي قد عرتني هذه العواصف من اسمي ومن لغتي من ذكرياتي القديمة ومن صور تعلقت كشفرات المقصلة على جدران ذاكرتي حملت عني حطام قلبي المتبعثر وبقايا أحلامي الضائعة خلعت عن جسدي المتهالك ثوبه الرمادي المائل للسواد بعض الشيء
جردتني تلك الرعود بصوتها المذعور من لساني الأبكم المتورم من إختناقه في سنين صمته الماضية
تحاول النهوض مجدداً لكنها لا تستطيع الوقوف تجلس بحالة القرفصاء على الأوراق المنثورة من حولها تحدث ظلها المختبئ في عباءة هذا الليل الدامس المستوحش
أسمع يا ظلي ها أنا أطوي الصفحة الأخيرة في كتابي الثلاثيني بكامل تفاصيلها صفراء ممزقة من كثرة ما عصفت بها أعاصير الأشتياق و خدشتها مخالب ذلك الوحش الذي يسمى الغياب ورمتها شظايا موت تحت الأنقاض لتحترق و تختلط بالرماد فتحملها أجنحةُ الريح إلى المجهول وربما إلى هاوية مدلهمة
أخبرني يا ظلي لماذا تختبئ مني هل انت خائف من أن أشيخ ذات يوم وأنت برفقتي فتنكسر صورتك من وزر السنين وتنحني وينحني ظهرك كعود قصب في مهب الريح
ها أنا أصور أخر الحروف مشدوهة أغلق صفحة الثلاثين بلا أمل بلا حب بلا وطن واسمي تنحى جانبا فلم يعد من الفراغ مايكفي لبصمته المشوشة وأخرج لا شيء معي سوى تلك الكلمات المصلوبة بين السطور على أوتار القلب في دفتر قديم
هل سأراك ذات مساء تفتقدني تشتاق لصدى صمتي تجلس أمام قبري تروي أزهره التشرينية المحاطة بي تحمل مذكرتي تقلب الأوراق المصفرة من جراء ما تتالى عليها خريف الذكريات فتسقط كالدمعة بين كلماتي أم أنك سوف تنساني إذا ما رأيت شمس الصباح تعلو جبهتك ؟
أخبرني يا ظلي هل أغلق تلك الصفحات بنقطة سوداء أخيرة وأعتم عدسة الذاكرة أم أفتح صفحة الأربعين بزهرة بيضاء تعطر بداية ذكرى جديدة؟
هل أقفل كتاب الحياة بمفاتيح الموت الداكنة أم أفتح سماء الانتظار بصرخة أنثى ؟
اخرج من كهفك المتكور تحت ظل تلك الصفصافة كن أكثر جرأة وواجهني لا تتمسمر أمامي كجثة تصلبت على أهداب موجة مهاجرة هات وشاحك وغطني بالعتم علي أغفو في أحضان هذا التراب مبعثرة فوق هذا الغبار الذهبي العتيق على موسيقى الكمنجات الباكية على ضفة غيمة في أوائل الخريف.
ليست هناك تعليقات