يدق باب الملك محمود في ليلة شتوية باردة، يخرج الملك محمود مرتديا سلهامه الأسود الصوفي الثقيل، واضعا سيفه الحاد على خسره الأيمن، فيجد أمامه رجلا مسنا، هزيل الجسم، أشقر الرأس، مرتديا ملابس رثة، و متسخة و ينتعل نعلا بالية، يرتجف جسمه من شدة البرد و لكنه محافظ على بسمته الخفيفة التي تخفي حزنا عظيما ، أما لحيته فقد كانت بيضاء داكنة متوسطة الحجم تضفي عليه مزيدا من الوقار و الاحترام..
قال الرجل بلسان متلعثم و لكنه صادق، اعذرني سيدي الملك، جئت إلى بابك في هذا الوقت المتأخر من الليل.
الملك محمود : من أنت..؟ و من الذي جاء بك إلى بابي..؟
الرجل المسكين : أنا من قبيلة بعيدة سمعت أنك رجل كريم، و قصدت بابك لغرض الحصول على طعام لأولادي السبعة، إن قبيلتي تعاني فقرا مدقعا و ليس بوسع خزائن القبيلة أن توفر طعاما لأكثر من فرد واحد من كل عائلة.
الملك محمود : ( ساخرا- محدقا في الرجل المسكين ملأ عينيه، مركزا عن قدميه المكشوفتين من نعله البالية الذي نال الزمن من جلدها..) و ما الذي ستعطيني إياه مقابل إعطائك طعاما لأولادك السبعة..؟
الرجل المسكين : يا سيدي الملك أنا رجل فقير و مسكين و لا أملك ما أعطيه لك سوى ردائي الوحيد هذا الذي ألبسه..!
الملك محمود : و ما الذي أفعله بردائك هذا ألا تسمع ما يقوله فمك، أنا الملك محمود حاكم مملكة صيدون و حكام القبائل المجاورة كلهم يخشون غضبي، فكيف أعاقبك على قولتك هذه التي بعثت الاشمئزاز و الغضب في روحي، هل أقطع رأسك و أرسله إلى حاكم قبيلتك، أم أقتل أولادك السبعة و أجعلك عبدا مطيعا لي، إن ما قلته يا رجل يعتبر إهانة لمقامي العظيم.
الرجل المسكين عاقد يديه على صدره – خافض رأسه و ينظر إلى الأرض) اعذرني سيدي الملك إنني رجل جاهل و لا أعرف ما أقوله، إن شئت اقتلني و لكن لا تقتل أبنائي السبعة إنهم أبرياء و ليس لهم ذنب.
الملك محمود : ( تعلو وجهه ضحكة ماكرة) فيماذا يفيدني قتلك، لا لا لا أقتلك، و لكن سأطلب منك خدمة، إن لم تفعلها سأقطع رأسك مع رؤوس أبنائك السبعة .
الرجل المسكين : سمعا و طاعة يا سيدي..!
الملك محمود : ستذهب إلى مملكة أوغاريت، الملك اليا رجل بسيط مع قلب رقيق و يحب المساكين، سينخدع بسهولة أنك رجل متسول، و عندما يصدقك اقتله و غادر مملكة أوغاريت، لكن إياك أن تذكر إسمي في حالة الإمساك بك من طرف حراس المملكة.
الرجل المسكين : حسنا يا سيدي سأقوم بذلك، و لكن كيف سأقتله وسط عشرات الحراس..؟
الملك محمود : الملك اليا يخرج وحيدا بلا حراس، خذ هذا السيف و اخفيه جيدا إن رأوه عندك حراس البوابة، فلن يسمحوا لك بمقابلة الملك اليا و سيقتلونك فورا.
يذهب الرجل المسكين إلى مملكة أوغاريت و يدق باب الملك اليا، فيخرج الملك اليا ليرى من الطارق، و يجد أمامه رجلا ذو مظهر رث و جسد هزيل ينتعل نعلا بالية، حز شكل الرجل في قلب الملك اليا و سأله في غرابة و دهشة .. !
من أنت يا رجل ..؟ ما الذي جاء بك إلى بابي في هذا الوقت المتأخر من الليل..؟
الرجل المسكين : اعذرني يا سيدي الملك العظيم اليا الحكيم، سمعت أنك رجل كريم و تحب المساكين، و قصدت بابك لأجل توفير طعام لأولادي السبعة..!
دخلا الملك اليا و الرجل المسكين إلى صالة الضيوف، و جلس الملك اليا على أريكة ضخمة تتوسط صالة كبيرة مفروشة بأفرشة مزخرفة برسومات قديمة و لكنها جميلة، أما الرجل المسكين فقد رفض الجلوس و ظل واقفا قرب مقعده أمام الملك اليا خافضا رأسه و ينظر إلى الأرض.
الملك اليا مشيرا بيده إلى شارة صفراء على صدر الرجل المسكين، ما هذه الشارة على صدرك يا رجل..؟
الرجل المسكين : إنها شارة للتضامن يا سيدي، نشتريها بدينار و نصف و نعلقها على صدورنا، فتقوم خزائن القبيلة بجمع أموال المتبرعين اللذين يشترون هذه الشارة و تساعد بها المعوزين و المرضى.
الملك اليا : و كيف تساعد الآخرين، و أنت لا تملك طعاما تطعمه لأبنائك السبعة.
لرجل المسكين : إننا بصحة جيدة و هذا يكفينا يا سيدي و من واجبنا مساعدة هؤلاء المرضى و المعوزين اللذين يفتقدون إلى الصحة.
لملك اليا ( يمسح نظراته السميكة بطرف بطرف ثوبه، و هو ينظر إلى الرجل الواقف أمامه) جميل فعلك يا رجل كيف تساعد الآخرين، و أنت بحاجة إلى العون..؟ هيا اجلس يا رجل، اعتبر هذا القصر بيتك.
( تدخل الخادمة زارا عاقدة يديها على صدرها )
الخادمة زارا : الطعام جاهز يا سيدي الملك..!
الملك اليا : احضروا مائدة تليق بالضيوف، هيا انصرفي الآن و أعلمي الخدام و الجاريات أن يهتموا بمائدة الضيوف.
الخادمة زارا : ( حركت رأسها موافقة ) حاضر سيدي الملك.
الملك اليا: اذهب مع الحراس و غير هذه الثياب القديمة، أنا أنتظرك إلى المائدة يا رجل.
يرافق الرجل المسكين الحراس الثلاث إلى صالة متوسطة الحجم تأتي في الترتيب بعد صالة الضيوف، كل بقعة جدار منها تحمل طلاءا مختلفا علن الآخر أشبه باللوحات الفنية التي تكون بمثابة خليط غير متناسق من الألوان، بداخلها مجموعة من الثياب المبعثرة على حسيرة مهترئة، قد نال الزمان من نسيجها، إضافة الى بعض اللوحات العالمية المعلقة على جدران الصالة بترتيب منتظم حيث أن كل جدار تعلق عليه لوحتين، إضافة إلى بعض التماثيل الموضوعة على قطعة خشبية بحجم مكتب، و أوراق رسم كثيرة مبعثرة ، بعضها ممزق بالكلية ، وبعضها الآخر قد فقد شكله المنتظم تحت ضغط اليد العنيفة ، إلا أنه بجانب القطعة الخشبية ، كانت هناك صورة للوحة ليوناردو دافنشي ‘ الموناليزا ‘ ، بجانبها ورقة رسم تناسب حجم صورة الموناليزا ، فيها نصف وجه فقط ، من غير تلوين . .
اما على الارضية ، فقد كانت هناك اقلام كثيرة مرمية ، منها اقلام للرسم مختلفة في سمك الرأس ، و منها اقلام للتلوين بفرشاة في آخرها ، و اقلام تلوين بغير فرشاة ، ايضا بعض المقابض الحديدية الحادة ، مع شيء من السكاكين الصغيرة و البراغي
لقد كان ‘ اليا ‘ يسمي هذه الصالة بــ ‘ بصالة الفن ‘ . . ذلك أنه خصصها للاعمال الفنية كالرسم والنحت ، فكان يأتي بصورة اللوحات العالمية و يحاول تقليدها بدقة . . صحيح انه كان يفشل غالبا ، إلا أنه كان قد تحسن كثيرا بتراكم المحاولات . . . المحاولات التي كانت محبوسة في تلافيف الاوراق الملقاة على الارضية ، حاملة في داخلها تقليدا لــ : ‘ سانتي رفائيل ‘ و ‘ مايكل انجلو ‘ ، وفي هذه المرة ‘ الموناليزا ‘ لدافنشي . . .و بجانب الرسم ، كان النحت ميزة ثانية لتلك الصالة الملطخة جدرانها ، فقد كانت القطعة الخشبية المتمركزة وسط الفوضى الفنية نموذجا ليبدأ ‘ اليا ‘ فيه مشوار النحت ، تقليدا كذلك لكبار النحاتيين كــ ، ‘ مايكل أنجلو ‘ أو ‘ برنيني ‘ الذي يملك لهما بعض صور التماثيل للملائكة التي نحتوها في كنائس روما الايطالية ، رغم أنه لم يكن يملك العدة اللازمة ، لكن المقابض الحديدية الحادة كانت بداية لابأس بها .
يدخل الرجل المسكين برفقة حارس واحد إلى هذه الصالة، صالة الفن، أما الحارسين الأخريين فقد ظل ينتظران عند البوابة.
الحارس: اختر الزي الذي يناسبك من بين هذه الثياب المبعثرة فوق هذه الحسيرة، و أنا سأساعدك لكي تلبسه.
الرجل المسكين: لو سمحت انتظرني عند البوابة إلى جانب الحارسان الأخريان، أنا سألبس بمفردي الزي الذي يناسبني.
الحارس: آسف يا سيدي هذه أوامر الملك اليا.
الرجل المسكين : (واضعا يديه على ثوب أصفر أشبه برداء قديس أو قاس ) هل بامكاني أن ألبس هذا الزي انه يناسبني كثيرا..
الحارس : نعم يا سيدي بإمكانك أن تلبسه. هذا الزي كان لحكيم عظيم في هذا القصر، الحكيم شهريار طبيب و حكيم هذا القصر، انهار الملك اليا اثر وفاته و فقدت المملكة واحد من أعظم حكمائها.
الرجل المسكين : فلترحمه الآلهة المقدسة.
الحارس : ألبس هذا أولا ثم ألبس الثاني، هذا الزي يتكون من ثوبين ثوب داخلي و ثوب خارجي، يجب أن تلبس الثوب الداخلي أولا ثم الخارجي لكي يناسبك أكثر. انه ثوب صممه مصمم أزياء إيطالي في القرن السابع عشر للملك الراحل خادم الآلهة ألكسندر الأول، و قد أهداه لابنه الأكبر الملك الحاكم اليا، أما اليا فقد أهداه للحكيم العظيم و الراهب المقدس شهريار إثر هزمه لعشيرة آشعي في المعركة الكبيرة الحامية الوطيس، معركة ” سان تزو “
الرجل المسكين. حسنا أيها الحارس طريقة لبسه غريبة و لكنه زي جميل هيا أنا انتهيت من لبسه الآن.
الحارس : أجل لاق بك كثيرا بإمكاننا الذهاب.
الرجل المسكين : و إلى أين سنذهب الآن..؟
الحارس : إلى صالة الطعام الملك اليا في انتظارك. من هنا أيها الرجل.. استدر على اليمين..سنصعد درجات السلم..صالة الطعام بالطابق العلوي..هيا أيها الحارسان.
يصعد الرجل المسكين درجات السلم إلى الطابق العلوي، و يرافق الحراس الثلاث إلى صالة الطعام التي تأتي على مستوى واحد مع مكتبة كبيرة تترصف فيها عشرات الكتب في الجهة المقابلة من الرواق لمطبخ كبير يزخر بأواني الطبخ التقليدية، فيجد الملك اليا يترأس مائدة كبيرة فيها كل أنواع الأطعمة و المشروبات.
الملك اليا (ملوحا بيده إلى مقعد فارغ أمامه ) هيا تفضل يا رجل اجلس إلى المائدة، لاق بك هذا الزي كثيرا، لقد كان الحكيم العظيم شهريار بمثل قامتك و حجمك.
الرجل المسكين : أتأسف يا سيدي الملك فقد أخبرني الحارس عنه.
الملك اليا : الحكيم شهريار، كان رجل عظيم جازف بحياته لكي ينقذ حياتي، كان من المحتمل أن يعيش كثيرا لو لم يلقي بنفسه أمام النبلة التي كادت أن تخترق بطني.
استغرقا الملك اليا و الرجل المسكين وقتا طويلا و هما يتناولان طعامهما و يتحدثان.
الملك اليا : عن فكرة أيها الرجل، ليس من المعتاد أن تضع السكين في فمك الشوكة هي المخصصة لهذا الغرض، يمكنك أن تخبرني الآن من أتيت..؟ و أين أبناؤك السبعة..؟
الرجل المسكين : أتيت من قبيلة بعيدة يا سيدي، و تركت أبنائي هناك.
الملك اليا : و ما قبيلتك..!
الرجل المسكين : قبيلة ايزيل.
الملك اليا : و هل كل أهل ايزيل يعانون الفقر و الجوع..؟
الرجل المسكين : أجل يا سيدي، ان أهل ايزيل جميعهم يعانون الفقر و الجوع..!
الملك اليا ( مخاطبا حراسه) أيها الحراس إجمعو الكثير من الملابس و الأطعمة و الذهب، و رافقوا الرجل المسكين إلى قبيلته و أكرموا كل مسكين و كل يتيم و اطعموا كل جائع.
الرجل المسكين : ( يتحسس جانبيه و قد لاحظ ضياع سيفه)
الملك اليا : أراك تتحسس جانبيك هل يضيق بك الزي..؟
الرجل المسكين : ( غائر العينين – مصفر الوجه – يخاطب الملك اليا في توسل و خجل) لقد كذبت عليك يا سيدي..! أنا أتيت لأقتلك لا لطلب الطعام.
( نهض الملك اليا من مقعده الذي يترأس مائدة الطعام و بدأ يعبر الصالة جيئة و ذهابا في تجهم و غضب.) كيف أتيت لكي تقتلني..؟ من أرسلك..؟ تكلم يا رجل، و الا أمرت حراسي بقتلك و فصل رأسك عن جثتك..!
الرجل المسكين: أرسلني الملك محمود لكي أقتلك، و هددني بأنه سيقتلني مع أبنائي السبعة ان لم أنفذ أمره و أقتلك، و لكن عندما رأيت كرمك يا سيدي لم أستطيع قتلك حتى و لو كان الثمن هو موتي و موت أبنائي السبعة.
خرج الملك اليا من صالة الطعام و تأخر بعض الوقت ثم عاد يحمل في يده سيف و تقاسيم وجهه تنبء بفخر عظيم و قال : نجحت يا رجل، الملك محمود صديقي المقرب، أراد أن يختبر صدق نيتك لذلك آمرك بقتلي و أبلغني بالأمر في رسالة قبل وصولك، خذ هذا السيف الذي كنت تبحث عنه أخذوه منك الحراس دون أن تلفت الانتباه، و الآن يا رجل خذ ما تشاء من الذهب و الأطعمة و الثياب و عد إلى قبيلتك.
|
ليست هناك تعليقات