المفهوم الثالث
تقرير التشابه والاختلاف بين لغتين لإدراك التأثير والتأثر
*متبني هذا المفهوم
(بول فان تييغ) يعتبر الأدب المقارن علم تأريخي .
من خلاله يتم شمول أكبر عدد ممكن من الوقائع المختلفة الأصل للوصول إلى حالة مثلى من الفهم والتعليل لكل حالة من هذه الحلات كل بخصوصيتها.
وراح باعتباراته في الأدب المقارن فقال عنه انّه تقرير التشابهات والاختلافات بين كتابين أو مشهدين أو موضوعين .أو لغتين أو أكثر .
ومن هنا تتبيّن لنا الثنائيّة التي تفرضها كلّ مقارنة من خلال استدعاء الذهن.
ولو راجعنا ما كتبته الشاعرة التونسيّة
عفاف السمعلي في قصائدها لوجدنا
أنها ذهبت فعلا إلى هذا المفهوم من مفاهيم الأدب المقارن.
إن لم تكن قد ذهبت إلى جميع ما ورد في هذا المفهوم فعلى الأقل أنّها قد ذهبت وبكلّ
عفويّة إلى ما فرضته عليها ثقافتها المتأثرة بالثقافات الفرنسيّة وبمدارس الشعر
الفرنسي.
ومن هنا نجد مدى تأثرها باللغة الشعريّة الفرنسيّة لاسيما تأثرها بلغة الشعر عند
(الفونس دي لامارتين) الشاعر النبيل الذي كان ينتمي إلى عائلة من طبقة النبلاء.في
بدايات القرن الثامن عشر.
والذي ما أن جمع وطبع ديوانه الأول
(تأملات شعريّة) حتى سطع نجمه .
ومن الحريّ بالذكر بأنّ قصيدة
(البحيرة )التي كانت مدعاة تأثر الشاعرة
عفاف
السمعلي بلغة
لامارتين الشعريّة والتي أخذتها إلى كتابة قصيدتها
(لامارتين).كانت
قصيدة قد كتبها لامارتين إثر العديد من تجارب الحب المؤلمة.
كتب
لامارتين "البحيرة"، عندما كانت حبيبته جولي لا تزال على قيد الحياة، وقد أجبرها
مرضها القاتل على ملازمة باريس.
كان الشاعر حين ذاك وحيدا، في مكان لقائهما
المفضّل، وكان مشهد "بحيرة البورجيه" يبعث في نفسه شعورا بالحنين، وكذلك صورا
من ذكريات سعادته المهدّدة.فأطلق زفراته لفضاء الكلمة .
فيقول في مقطع من مقاطع قصيدته ترجمها إلى العربيّة الأستاذ محمد سعيد الجندوبي:
(هكذا، يُلقى بنا دوما نحو سواحل جديدة،وفي الليل الأزليّ نُؤخذ بدون رجعة،فهل بمقدورنا يوما، على سطح محيط الدهورإلقاء المرساة ولو ليوم؟)
نلاحظ أنّ المقتطع من النص هنا ينتهي بسؤال.
وفي مقطع مقتطع آخر من نفس القصيدة يقول
(هل تذكرين ذات مساء؟ كان قاربنا يجري بصمت
ولم يكن يصلنا من هناك.. من بعيد.. فوق الموج وتحت السماوات،
غير صخب المجدّفين، وهم يضربون بإيقاع،
أمواجك المتناغمة)
يبدأ الشاعر بسؤال.
ويكثر السؤال ويتعدد في هذا المقتطع من القصيدة
( ماذا! ألن يكون بمقدورنا أن نستبقي منها الأثر؟
ماذا! ولّت إلى الأبد؟ ماذا! ضاعت كلّ تلك السّاعات؟
هذا الدهر الّذي أوجدها، هذا الدّهر الّذي يمحوها،
أفَلن يعيدها لنا من جديد؟)
هنا وهناك تعددت الأسئلة واختلفت وكانت جميعها منطلقة من روح الألم للسان الوجد
.بلغة شعريّة غلبت عليها الاستفهامية المغرقة بالعجز تارة وباليأس تارة أخرى.
هذه اللغة قد استفزت في
عفاف السمعلي شاعريّة المرأة الشاعرة فكان التأثير جليّا في
قصيدتها
(لامارتين ) التي ذهبت بكتابتها إلى تقمص شخصيّة الحبيبة التي كان ينطرها
الشاعر .
فتقول الشاعرة في المقتطع الأول من قصيدتها:
تنهد لامارتينوسكب السؤال تلو السؤال.أين أنا منك ياطفلتيأين أنا.
هنا تعلن الشاعرة عن تقمص دور من يبحث عنها الشاعر بموجب مدى تأثر القرين
بالمقارن .
ولو أمعنا النظر باستخدام الشاعرة لفعل سكب للمفعول (السؤال) لوجدناها قد بلغت
المدى البعيد بتأثرها الإنساني الشاعري بلغة الاستفهام التي كانت السّمة الغالبة على
القصيدة.
ولو ذهبنا بعيدا في قراءة قصيدة
لامارتين للشاعرة
عفاف السمعلي
نراها تشير إلى ما أشار إليه لامارتين عن ذكرياته مع حبيبته عند البحيرة
ولكّنها تشير إلى هذه الذكريات كجزء من مما تركته الحبيبة عند لامارتين
فتقول:
لي عندك شرفة القمرومطر يعاودنيبغيث القبلاتلي عندك تضاريس أنوثتيوحقيبة الذكرياتلي عندك ورودي التي رويناهابعبق الأمنيات.
هذا الاستغراق بوصف ما تركته الحبيبة عند لامارتين الحبيب يأخذنا إلى تأثر
الشاعرة بمدى اللوعة التي عانى منها الشاعر وهو يتأمل البحيرة التي عاشت قصة
حبيهما.
ومن خلال هذا ومن خلال استحضار الذهنيّة عند القارئ تتولد الرغبة في البحث عن
لامارتين وقصيدته بالاستقصاء.
للوصول إلى حالة مثلى من الفهم والتعليل لكل حالة من هذه الحالات التي مرّ بها
الشاعر .وهذا ما ذهب إليه المفهوم الثالث من مفاهيم الأدب المقارن المذكور سلفا.
*وفي جانب آخر من جوانب المفهوم الثالث من مفاهيم الأدب المقارن .
وهو جانب المختلف بين القرين والمقارن .
نجد أن
عفاف السمعلي قد اختلفت عن
لامارتين بقصيدتها بأسلوب مغاير لأسلوب
لامارتين الاستفهامي المغرق باليأس .فقد اعتمدت أسلوب الجملة الخبريّة التي أدخلت
من خلالها الأمل بالخلاص من الوجع وانتظار مبسم فجر جديد .
وهذا يدلّ على أنّ الشاعرة قد اتخذت من قصيدة البحيرة التي تأثرت بها بوابة لعالم
جديد لا يقبل اليأس أو القنوط في مثل الحالة التي مرّ بها لامارتين حبيبا وشاعرا .
وبذلك تكون
عفاف السمعلي هنا قد اتخذت من الاختلاف بين الأسلوبين طريقا لخلق
فكر جديد من خلال نقطة انطلاق مختلفة زمانيّا ومكانيا وهنا تكون قد حققت ما جاء
بالمفهوم الثاني الذي ذكرناه في الجزء السابق من بحثنا.وقد جمعت بين ذاك المفهوم
وهذا بنجاح.
فتقول الشاعرة في هذا المقتطع:
لامارتينازرع نبتة الهوى لأخلع نزيف الروحأنت زغرودة الفرحودمع يغمّس بليل الوجعكلّما هطلت غيمة من عينيكأورق قلبي من جديد.
ويظهر بعد هذا لنا إنّ الشاعرة قد تجاوزت حدود المقارنة عن طريق التأثر والتأثير من
اللغة الشعريّة تشابها . والمختلف أسلوبا إلى إشراك قرين ثالث مختلف عمّا ورد ذكره
فراحت إلى عشتار آلهة الحب عند البابليين ولم تتخذ فينوس أو ما سواها من التسميات
الأخرى لهذا المقترن الجديد بهدف الإشارة إلى الحضارة البابلية في وادي الرافدين.
ومن هنا نستشف بأن الشاعرة لم تعمد إلى ذلك جزافا .
بل تلميحا إلى شيء تريد أن توصله إلى القارئ.
وما أرادت أن تقوله الشاعرة من خلال استخدام هذا القرين بأنها قد استخدمت تأثرها
بلامارتين سبيلا إلى الحديث عن إرهاصات ذات تعتريها وهي تكتب لتموز البابلي
بصورة لامارتين الشاعر الفرنسي .
فتقول:
لامارتينأرسم عشتار بلون التبرما عاد في العمر بكثيرلأسكبه وأجرب
وتعود أخيرا بنا الشاعرة إلى نافذة الأمل معلنة في نهاية قصيدتها عن الحالة الجديدة
المثلى التي تدعو إلى الأمل في أصعب حالات الألم
فتقول ...
مدّ يديك نحطم صخور الخيباتونرحللعالم تحكمه العصافير
من هنا لابدّ من تلخيص مجريات قصيدة لامارتين لعفاف السمعلي على النحو التالي.
عناصر المقارنة فيها:
* ( لامارتين ولغته الشعرية – الشاعرة ولغتها الشعرية- نوع الاقتران –تقرير تشابه).
*(الأسلوب الشعري – قنوط ويأس في قصيدة لامارتين – أمل وتطلع في قصيدة
عفاف السمعلي – نوع الاقتران- تقرير اختلاف)
*(استخدام قرينة ثالثة –عشتار – للدلالة على ما أرادت الشاعرة إيصاله للقارئ من
حقيقة القصيدة ومغزاها.
ومن هنا إلى المفهوم الرابع نمضي بالبحث بإذن الله تعالى
ليست هناك تعليقات