يعرَف المفهومُ الواسع للإبداعية بأنه يشمل: الأشخاص الذين لا يُنتِجون أعمالًا إبداعية جديدة أو مؤثرة ومعترفًا بها. أي أن (الإبداعية) تكون دون إخراج مُنتَجاتٍ إبداعية معتَرف بها!..
ويبدو هذا المفهوم متناقضًا، من حيث الشكل والمضمون، ولكنه يعني بالضرورة: معالجةَ الإبداعية باعتبارها صفةً شخصيةً مُكتنَزة في نفوس الأفراد، سواء أَنتَجوا أعمالًا إبداعية أم لا.. وهي بهذا المعنى: صفةٌ مُوزَّعة على جميع الناس، ومنهم المتعلمون، وقد تتضاءل إلى مستوياتٍ دُنيا عند بعضهم، لكنْ من المستحيل انعدامُها.
يقول (آرثر كروبلي):«مِن الصعب تَـخَيُّلُ ناتِجٍ إبداعيّ دون أسباب تدعو له»!..
من هنا؛ يفسِّر ذلك كلُّه: أهميةَ الانتقال من (أنموذج التعليم التقليدي)، إلى (أنموذج التعليم الإبداعي - تعليم التفكير)، وضرورةَ التحوُّل إليه..
ويتفق الجميع على أن (التعليم من أجل التفكير)، أو تَعَلُّمَ مهارته؛ هدفٌ مُهِمّ للتربية، وعلى المدارس أن تفعل كلَّ ما تستطيع من أجل توفير فرص التفكير لطلابها.. ومن المجالات التي تَـحُدُّ من ظهور (الإنتاج الإبداعي): طرقُ التدريس التقليدية، وخاصة أسلوب التلقين.
إنّ حَـمْلَ المعلمين على تغيير أسلوبهم التلقيني إلى أساليبِ تدريس جديدة تَسمح للمتعلمين بالتفاعل النَّشيط؛ يُواجِه مقاومة شديدة، خاصة أن أسلوب التلقين لا يتطلب جهدًا من المعلمين في التحضير المسبق للدرس، كما أنه لا يتطلب استخدامَ وسائلَ وتقنياتٍ تعليميةٍ حديثة، ويساعد في تغطية جزء كبير من المقرر ومواجهةِ جمع غفير من المتعلمين.
إن (التعليم الإبداعي) يُسهِم في بناء المتعلم الذي يستطيع التفكير بمهارة عالية، من أجل تحقيق الأهداف المرغوب فيها، وتنشئةِ متعلمين يمتازون بالتكامل من جميع النواحي: الفكرية والروحية والوجدانية والجسمية، وتنميةِ قدراتهم على (التفكير الناقد والإبداعي)، وصُنع القرارات، وحل المشكلات، ورفع مستوى الثقة بالنفس لدى المعلمين والمتعلمين على حدٍّ سواء.
ولذا؛ نادَى العلماء بنوع جديد من (التعلُّم) يَـحُولُ دون النظر إلى الحاضر بعيون الماضي، أو بعبارة أخرى: اعتبار الحاضر والمستقبل تكرارًا للماضي.. وقد أُطلِق على هذا الْمَنحَى الجديد في التعلُّم: «التعلُّم التحويلي». ويمكن القول: إن (التعلُّم التحويلي)؛ هو: التعلُّم الذي يُـمَكِّن المعلمين من عدَم النظر للابتكارات بعيون الماضي، مما يُسهِّل إنتاجَ الْـجِدَّةِ.
فالتغيير الجذري في التعليم؛ لن يتحقق إلا إذا تَقَبَّل المعلمون تغييرَ أدوارهم التقليدية، إلى أدوار جديدة، ففي النظام التعليمي الحالي الذي تشهده مملكتنا الحبيبة؛ نجد أنه يشجع الموهبة والابتكار، وإنتاجَ المعرفة الجديدة، ويُعِدُّ لذلك البرامجَ الخاصة بها، التي مِن أَبرزِها: «الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي»؛ ففي هذا التعليم؛ يكون دورُ المعلم مُرشدًا ومُيَسّرًا لعملية التعلُّم، وعليه استخدامُ مَداخلِ وأساليبِ التدريس التي تؤكد ضرورة تنمية قدرات المتعلمين في حل المشكلات، واتخاذ القرارات، والإبداع، وتهدف إلى النمو الذاتي والاستقلالي لهم، وليس دَورُه دَورَ المتسلط، الذي يَعتبر نفسَه مصدرَ المعلومات الوحيد في غرفة الصف!.. وكلُّ ذلك يتطلب وجودَ المعلم المؤهل والفاعل؛ حيث إنه يمثل أهَمَّ عنصر من عناصر العملية التعليمية، وأعظمَ عنصر لنجاح تعليم التفكير والإبداع.. ولا شك أنه إذا لم يَتلَقَّ المعلمون تدريبًا كافيًا على أساليب التدريس الحديثة، التي تنمِّي مهارات الإبداع لديهم؛ فمن العسير جدًّا أن يُغَيِّروا من طرق التدريس التقليدية، التي تعلَّموا بها مسبقًا، وأن ينظروا إلى (التعلُّم) بطريقة تحويلية!
(معيارية المنهج)
أصبح الحديثُ عن (أهمية المعيارية في التعليم) أو ما نُسمِّيه: (معيارية التعليم - (Standard of Education -؛ مُلازِمًا للحديث عن التعليم نفسِه؛ لِمَا تملكه (المعياريةُ) من أهمية في إنتاج التعليم.. ويُعتبر وَضعُ مستوياتٍ معياريةٍ في مجال التربية بخلاف مجالات أخرى؛ مثل: الصناعة وغيرها موضوعًا جديدًا نسبيًّا، وذلك من منطلق:(إصلاح التعليم-Education Reform)و(تحقيق الجودة الشاملة - Total Quality).
وتُعَدُّ (المعايير): حَجَرَ الزاوية في عملية إصلاح التعليم وتطويره؛ لكونها المقياسَ المحدِّدَ لمستويات الجودة الشاملة لمنظومة التعليم والتعلُّم، بكافة عناصرها: برامجَ ومناهجَ ومعلمينَ ومتعلمين وإداريين، في مستويات الإدارة التربوية (العليا والوسطى والتنفيذية).
وقد قَدَّمَت (الهيئة السعودية للمواصفات والمقاييس)؛ مشروع: «الاستراتيجية الوطنية للجودة»، الذي تبَّنت من خلاله رؤيةَ خادم الحرمين الشريفين، الملك عبدالله بن عبدالعزيز -رحمه الله- بأن تكون «السعودية بمنتجاتها وخدماتها»: معيارًا عالميًا للجودة والإتقان، عام 2020م.
ويُترجِم «مشروع الملك عبدالله بن عبدالعزيز - رحمه الله - لتطوير التعليم العام»، حِرص حكومتنا الرشيدة على تطوير التعليم، بكل أبعاده، ومستوياته المختلفة، ومن ذلك: «مشروع بناء معايير الاختبارات الوطنية»؛ الذي يهدف إلى: تحديد المستويات المعيارية لتحصيل المتعلمين.
وعلى الرُّغم من ذلك؛ لا تزال بعض القضايا التعليمية واسعةً وغير موضوعية، بل يُهَيمِن عليها عدمُ الدقة والشخصنةُ، وتنقصها بذلك المعايير اللازمة التي يمكن أن تكون أدواتٍ مرجعيةً مقنَّنةً للحكم على مدى صحتها أو دقة أدائها، والأهم من ذلك جودتها. ومن أبرز هذه القضايا التي يمكن أن تندرج تحت مسمى (معيارية التعليم): (معيارية المنهج - Curriculum Standards)، حيث يعتبر (المنهج): الركيزةَ الأساسية التي يقوم على أساسها كلُّ تطوُّرٍ وتقدُّم حضاري.
ومن هذا المنطلق؛ يتضح مدى أهمية وضع (وثيقة المستويات المعيارية للمنهج الدراسي) التي تهدف إلى: إعداد معايير لمناهج التعليم العام توضّح ما ينبغي أن يعرفه المتعلمون من مؤشرات الأداء، ومفاهيمَ ومعارفَ وخرائطِ المدى والتتابع، ومعاييرِ تعليم المادة وتعلُّمها، ومعاييرِ توظيفِ التقنية في تعليم المادة، ومعاييرِ تقويمِ المادة، ومعاييرِ التنمية المهنية للمعلمين، ومعاييرِ تطوير المنهج. حيث إنه من خلالها؛ تتمكن المؤسسات التربوية التعليمية من إعداد المتعلم وتكوينِه ليؤديَ الأدوارَ المتوقعة منه بشكل فاعل، في مختلف مجالات الحياة، وتتضمن: (المجالات - (Domain، و: (المستويات المعيارية - Standards)، و:(مؤشرات الأداء - (Indicators، و:(قواعد التقدير-(Rubrics، اللازمة لكافة مكونات المنهج التالية:(الأهداف، المحتوى، طرق التعليم والتعلّم، الأنشطة التعليمية والتعلُّمية، مصادر المعرفة والتكنولوجيا، وأساليب التقويم).
ومجمل القول: إن المستوياتِ المعياريةَ للمنهج؛ تعتبر أداةً مرجعية، وقاعدةَ المسؤولية والمحاسبة لسير العملية التعليمية داخل الفصل، وتُسهِم في تطوير أساليب التعليم والتعلُّم في الفصول الدراسية، وكذلك في تنظيم جهود المعلمين ومتابعتها. كما أنه يمكن الاعتماد عليها في تنمية الأداء لدى المتعلمين، لِنَصِلَ من خلالها إلى تحسين أداء المتعلمين، وبالتالي تحسين مخرجات التعليم المتمثلة في: إعداد المواطن الصالح القادر على التعامل مع المتغيرات العالمية المتسارعة، وتحقيق الجودة النوعية في مجال التعليم، ومنه تتحقق الجودة الشاملة في كافة القطاعات الأخرى.
ماذا نعلِّم؟ ... بقلم : أماني محمد طه
مراجعة بواسطة مجلة منبر الفكر
في
10:57 م
التقييم: 5
ليست هناك تعليقات