ولوَلاتٌ على المُفترَقاتِ:
"لم يعُدْ يمرُّ الصّباحُ بنا".
رأيتُهُ، آخرَ مَرَّةٍ، قبلَ أن تَتَّسِعَ حلقاتُ رقْصِ المَجرّات. رأيتُهُ يتسلَّقُ، كُلَّ صباحٍ، فوقَ نافذَتي على خيوطِ صِياحِ الدِّيكِ الذي بلونِ الطّينِ. رأَيْتُهُ، قبلَ أنْ يَضيقَ الخِناقُ على أعناقِ الأسئلةِ العسيرةِ، يركضُ فوق التِّلال، غزالًا خارجًا من نشيدٍ قديمٍ، ويهبطُ إلى الوادي على سلالمَ مجدولةٍ من شدوِ العصافير. رأيتُ الأشجارَ، عهْدَئذٍ، تخلعُ ظلالَها تحتَ أقدامِهِ، وترتدي على مَهَلٍ فساتينَ قوسِ قُزحٍ. رأيتُهُ يقطُرُ في حظائرِ الحكاياتِ حليبًا بلّوريًّا من ثدييّ إلهةٍ سومريّة. رأيتُه يمشي على رنينِ أجراسِ الخُيولِ الهابطةِ من هضاب الإمبراطوريّات البائدة. رأَيْتُهُ يقفزُ من بيتٍ لبيتٍ، يدقُّ على الأبوابِ بأناملَ من نورٍ، ويفيضُ بلا صوتٍ في الأزقّةِ التي فتحت صدورَها للصِّغار ومناقيرِ الحمام. ورأيتُهُ يُحيكُ انفراجاتِ الأساريرِ والتَّحِيّات العسليّة عرائشَ فوق السُّطوح.
نحيبٌ متقطِّعٌ متلاحقٌ على المُفترقات: لا فُراقَ بلا لقاء، ولا لقاءَ بلا افتراق. وما زالت النّجومُ تقتربُ وتبتعدُ، وصباحُنا ضائعٌ.
وما زالَ يخبرُني بائعُ الحُلقومِ، منذُ انفجرَت مرارتُهُ من كثرةِ السُّكّرِ، أنَّ صباحَنا خرجَ ولم يعُدْ. لكنَّ زوجتَهُ التي أقلعتْ عن غزلِ شَعرِ البناتِ وتعلَّمَتْ فنَّ طهوِ القهوة المُرّةِ في مَغارتيِّ خدَّيْها، ما زالت تقولُ إنَّ صباحًا عابسًا، بشعرٍ مُستعارٍ، يحضرُ كلّ صباحٍ إلى حيِّنا، يقودُ سيّارةً زجاجُها ليلٌ خالصٌ، يحمِلُ حقيبةً فيها ماءٌ داكنٌ وأصابعُ السّيّد نوبل، ويبيعُ الأحلامَ الاسفنجِيّة على المُفترقاتِ المُسَيَّجةِ بالأسلاك وفُتاتِ الأخلاقِ وصُرَرِ المُهاجرين.
وتقولُ زوجةُ بائعِ الحُلقوم، التي أقلعَت عن غَزْل شَعْرِ البناتِ وراحَتْ تقرأُ الطَّوالعَ في فناجينِها المُرّة: إنَّ صباحَنا ضاعَ عندَ تطابقِ المساحاتِ بين الجهلِ واليَقين، واختلاطِ الحُدودِ بينَ الأصوليّة والأَصالة، على إيقاعِ وعودِ إلهِ العِفّةِ بإقامةِ حفلاتِ "الأورجي" في قاعاتِ الفراديس.
لكنَّ العلومَ الحديثةَ، التي لا تذكرُ مقولة أبي نوّاس عن فلسفةِ العِلم، سوف تحكي لنا أنَّ النُّوسطالجيا داءٌ خطيرٌ، يطرحُ الأمنياتِ الجميلةَ على جسدِ ماضٍ لم يكُنْ، وأنَّ الضَّوْءَ يأخذُ هيئةَ العَتْمِ كُلّما سقطَ على عينيِّ كوكبٍ مُصَابٍ بالعَماءِ والنِّسيان.
ليست هناك تعليقات