في زمن الفساد والمحسوبية والتكالب على المناصب والسلطة والمال دون رقابة أو محاسبة يصبح كل شيء مباحا على قارعة الطريق وتعم الفوضى وتضيع الحقوق وتتلاشى القيم ولا تسمع هنا وهناك غير الشعارات الرنانة وكلام الوهم والخداع وتضليل العقول وتشتيت الوعي.
وقد تفتقت القرائح لاستنباط الحيل الشيطانية لتجاوز القوانين والأعراف الإدارية بمكر شديد في ظل تواطئ مريب للأحزاب والنخب الحاكمة وكأنها تتبادل المنافع والغنائم من وراء الستار فتحصن المواقع وتثبت المريدين والأنصار توقعا للمعارك السياسية القادمة.
وقد كانت الإدارة بالخصوص لما لها من سطوة ونفوذ على توزيع الموارد والأجور والمنافع والتحكم في معيشة المواطن والموظف والتاجر والعامل محل سيطرة كاملة من طرف الأحزاب الحاكمة التي تستعمل كل الامكانيات المادية والمعنوية للمرفق العمومي وكأنه ريع خاص وإرث مستحق فتنصب في الأماكن الحساسة ما تشاء وتعطي الامتيازات لمن تشاء وتبقي في العمل بعد سن التقاعد من تشاء وتسرح من تشاء ضمن إجراءات ملتوية وغير شفافة لا تطبق المنطق العقلاني والحوكمة الرشيدة.
فقد رأينا بأم العين ولم نكن نحلم مطلقا ولم نصب بعد بالخرف أن هناك من خرج للتقاعد ثم عاد فجأة للعمل ففي زمن المعجزات تعود الأموات من قبورها ماشية على أرجلها وكأن المؤسسة قد فقدت جميع كفاءاتها وإطاراتها وهي في حاجة لهؤلاء العباقرة الأفذاذ الذين سيغيرون الأحوال البائسة والميؤوس منها بجرة قلم وهم في الغالب مرتبطون بمنظومة النفوذ والمصالح الحزبية والشخصية وليس لأنهم أكفاء ولا يشق لهم غبار في المعرفة والعلم لأننا لم نر منهم على أرض الواقع طوال أكثر من ثلاثين سنة أعمالا بارزة تبرر عودتهم للنشاط بعد تقاعدهم.
كما نشاهد العدد الهائل من المستشارين حول المسؤولين وأصحاب المأموريات والخبراء في كل مكان حتى أصبحت العملية الإدارية والسياسية تتم بالوكالة ولا تمت للواقع بشيء ولذلك نرى دائما ترددا في أخذ القرارات التي تأتي بعد فوات الأوان فتكون دون فائدة.
فالمسؤول الكفء والذي يريد تحمل أعباء مهمته من المنطقي أن يكون ملما بالملفات التي بعهدته دون وساطة مادام قد تم اختياره بعد التثبت في كفاءته ومعارفه وقدرته على النجاح وعلى مخططاته ومشاريعه للنهوض بالقطاع الذي يشرف عليه لكن عملية المحاصصة الحزبية جعلت رئيس الحكومة يقبل بما يعرض عليه مكرها حتى لا ينحل عقد التوافق.
وهكذا وتحت يافطة التوافق الحزبي في ظل نظام برلماني مشوه لا رائحة ولا طعم له تتولد عنه دكتاتورية توافقية بين الأحزاب الكبيرة الحاكمة تتصرف حسب أهوائها ونزواتها ومصالحها الآنية والمستقبلية ومجلس شعب منزوع المعارضة الفعلية وصاحب السيادة والعصمة يتحول الفعل الإداري والسياسي إلى منظومة ريعية تهدر فيها الموارد وتشتت القوى وتغتصبها الفلول وترتع فيها البقار السمان دون رحمة ولا شفقة.
وهذه الديكتاتورية التوافقية ذات النزعة الاستعلائية الباحثة عن الاستيلاء بحيلة القوانين والإجراءات لما لها من سطوة العدد في مجلس الشعب وتسكنها هواجس الخوف والريبة من قادم الأيام لأن الزيجة الرباعية لا يسندها المنطق والتاريخ وهي زيجة جاءت نتيجة للمصلحة كالزواج العرفي النزوي للمتعة الوقتية والآنية قبل العودة للمنبع والديار، لا يمكن الوثوق إليها على المدى الطويل ولهذا فالتكالب على المناصب والغنائم هو العمل الدؤوب لهؤلاء وبكل الطرق الشرعية واللاشرعية.
وهذا هو أكبر خطر يهدد كيان الدولة من الداخل التي أصبحت هلامية الشكل متعددة مراكز القرارات ويتلاعب بها ما يسمى بالخبراء في السياسة والاقتصاد والحقوق وجحافل المستشارين وهم في الغالب من الطامحين للمناصب والمال والنفوذ ومن هواة البروز في الملتقيات والمنابر التلفزية وبيع الأوهام للناس البسطاء.
وإذا لم تتحقق منظومة لاتخاذ القرارات بتجرد وحكمة بعيدا عن الجدل السياسي العقيم والمصالح الحزبية الضيقة والمنافع الشخصية فإن مطالبة الشعب بالتضحية وتحمل الحلول المؤلمة والكد والعمل دون النزول من فوق الربوة إلى أسفل الوادي حيث الوحل والغبار والتهميش ستكون كصرخة في الصحراء وستنحدر الدولة إلى الفشل الصريح.
*عز الدين مبارك كاتب ومحلل سياسي
ليست هناك تعليقات