كان ذلك في المملكة المتحدة، وكنتُ أرقب طالبات وطلاب الثانوية الحكومية. كانوا مسلمين، لا بل غالبيتهم من المسلمين بنسبة تعدت 96%. وكان معظم المعلمون من الإنجليز، أهل البلد الأصليين يعملون على تربية الطلبة وصقل أسلوب تفكيرهم بحسب القيم الغربية.
يعاني المهاجر الليبي حاله حال المهاجرين المسلمين، من مشكلة الخوف من ضياع الهوية
أما معظم الطلاب فهم من أبناء الجيل الثاني والثالث للجالية الباكستانية المسلمة والقديمة في بريطانيا والتي عبر الأجيال قد اجتازت الكثير من العقبات إلا أن بعضها لازال عالقًا، مشتركة في ذلك مع الكثير من المهاجرين العرب والليبيين. فرغم آن بريطانيا هي الموطن الذي لا يعرف ابن المهاجر غيره إلا آن عائق اللغة للمهاجر ذاته في كثير من الآحيان لا زال حائلًا ضد إندماجه في المجتمع
حيث كان من الصعب التواصل مع الآهل في المدرسة دون مترجم. كذلك ضعف لغة الأبناء كانت تستنزف مجهودات المعلمين بشكل كبير، وقد راعني تهافت الطلبات على إدارة المدرسة بحجة العادات والتقاليد والدين، وكنتُ أتابع بدهشة المرونة الشديدة لإدارة المدرسة ومحاولاتها الدائمة الاستجابة لأكبر قدر ممكن منها، فعلى سبيل المثال كان الزِّي المدرسي للبنات عبارة عن اللباس الباكستاني وذلك تلبية لرغبة الأهالي لأنه اللباس الإسلامي في نظرهم، هذا رغم وجود طالبات من آهل البلد الأصليين في المدرسة. في المقابل قلما رأيت نفس القدر من المرونة من جانب المهاجرين لادماج الأبناء في المجتمع البريطاني.
وفي العموم يعاني المهاجر الليبي حاله حال المهاجرين المسلمين، من مشكلة الخوف من ضياع الهوية رغم هشاشتها، و عدم درايتتا بمكونات الشخصية الليبية للظروف التاريخية والسياسية والاجتماعية والثقافية التي تعرضت لها بلادنا. ولقد استوطن المهاجرون بلدانًا غربيّة وغريبة عنهم. هي مختلفة عنهم في اللغة والدين والعادات والأعراف والأنظمة السياسية وكل شيء أخر تقريبًا بما في ذلك مفهوم الأخلاق و الضمير والابتسامة أيضًا. فقد وصلوا إلى مهجرهم الجديد محملين بإرثهم الثقافي والقيمي والديني.
وهناك في مجتمعهم الجديد كان لزامًا عليهم إيجاد طريقة للتعايش ومواجهة تحدياته دون التأثير على إرثهم مفتقدين في ذات الوقت التهيئة النفسية اللازمة للقيام بهذه المهمة. ولعل في خوفهم ذاك ما يبرره فهاجس الذوبان في مجتمع يجهلونه أمر لا يمكن تصوره.
فكيف تعامل هؤلاء مع مجتمعهم الجديد؟
لاشك أن هناك من استطاع الحفاظ على الهوية الأصلية بحسب تصوره وبشكل لا يتعارض مع ضروريات الاندماج الإيجابي في المجتمع المضيف وبالتالي نشأ الأبناء على احترام المجتمع وعاداته واستيعاب قيمه القائمة على إحترام المختلف عنه في المظهر والجنس والعقيدة والرأي فكانوا بذلك عناصر فعّالة ونافعة لأنفسهم ومجتمعهم.
وهناك من آثر (السلامة) بعدم إظهارأي نوع من المرونة للتعايش في المجتمع الجديد فلجأ إلى الاحتشاد مكونًا مجتمعًا مصغرًا فيما يشبه (الجيتو) لا يمكن اختراقه حافظ فيه على كل شيء. فمثلًا لم يحافظ (الجيتو) الليبي على (المبكبكة) وأخواتها فحسب بل حرص على الانكفاء الفكري و ضيق الأفق فكان التشدد في التديّن بحسب التديّن الليبي الحديث الوافد إلينا تخمينًا منهم صيانة الهوية الليبية.!
اللافت أن من مرّ بمرحلة التدين الشديد مرّ بها رافضًا أي اندماج إيجابي في المجتمع الجديد أو فلنقل حرص على أن يكون تفاعله مع المجتمع في أضيق نطاق ممكن فتراه فارضًا قيودًا باسم الهوية الرخوة آو الدين بحسب ما يراه على الأبناء دون محاولة جادة لفهم أوضاع المجتمع الحاضن له و لأولاده.
ويتمخض عن هذه التجاذبات في حياة الآبناء بناء شخصية مزدوجة ممزقة نفسيًّا و اجتماعيًا و ثقافيًّا، فتارة يظهر ابن المهاجر بمظهر المتدين صاحب الخلق العالي بحسب ما يرغب الأهل و تارة هو المتمرد على عادات أهله وتقاليدهم أمام أقرانه. ويستمر هذا النفاق السلوكي الاجتماعي فقد شاهدتُ مثلًا آثار فرض الأهل الحجاب على الصغيرات، حيث كانت بعض الفتيات ينزعنه في المدرسة و يضعنه عند انتهاء الدوام مخافة الأهل. كذلك لطالما شهدتُ محاولات الاختلاط بين الأولاد والبنات خفية عن رقابة الأهل.
ليس خافيًا أن ابن المهاجر يتلقى التعليم الحديث المبني على حرية التفكير والنقد لكافة المواضيع دون قيد و كذلك احترام حقوق الإنسان مما يشعره بأهميته كإنسان له كرامة محفوظة في مجتمعه. و لكن ما أن يرجع للبيت حتى يُقابل بتربية قائمة على نظام الرعية بما فيها من تحريم المعارضة و المناقشة بالمنطق و الحجج العقلية.
و يزداد الأمر سوء في عطلة نهاية الأسبوع حيث يجد الطالب نفسه وقد أُلبس الجلباب و الطاقية لُيلقى به في آتون الفقي الغير مسئول الذي يوشوش في أذنه بكلمات حتى يدور رأسه ويغشى عليه.
ابن المهاجر يتلقى التعليم الحديث المبني على حرية التفكير و النقد لكافة المواضيع دون قيد
وبمرور السنوات يكبر الأبناء وهم في تضارب كبير وتناقض بين ما يجري داخل البيت وعند الفقي الغير مسئول وما يواجهونه في المدرسة و المجتمع، وستتكون لديهم ما تُسمى بالثقافة الثالثة، المصطلح الذي أطلقته رووث هيل يوسيم على ثقافة من هم في مثل وضع أبناء المهاجرين الليبيين و المسلمين عمومًا.
وقد يصل الأمر بهؤلاء الأبناء كنتيجة للاضطراب والتشويش الذهني والنفسي إلى أحد أمرين، فإما الاستسلام التام لما زرعه فيهم الأهل و الفقي الغير مسئول، تحديدًا الضياع بين ثنائية الإيمان والكفر والتي قد تجرهم إلى تشرّب ثقافة الموت، الشيء الذي ينحو بهم لكراهية مجتمعهم الذي لا يعرفون غيره وهذه مشكلة حقيقية سيعاني ويلاتها هؤلاء الأولاد وآهاليهم والمجتمع المضيف،
وعندها لا يحق لنا أبدًا استبعاد لجؤوهم للإرهاب بكل فضائعه و فضائحه. في المقابل قد يلجأ الأبناء إلى محاولة الاندماج في المجتمع رغمًا عن الوالدين مما قد يضع الأهل في موقف محرج للغاية لاضطرارهم مواجهة الأمر الواقع و في هذه الحالة قد يتنازل الأهل رغمًا عن ذقونهم وذقن الفقي الغير مسئول عن مظاهر التدين الشديد بعد أن استهلكوا فيه العمر وأضاعوا الوقت وذلك كسبًا للابناء.
|
ليست هناك تعليقات