يقول ماكسيم غوركي، "الورقة الّتي لم تسقط في فصل الخريف، خائنة في عيون أخواتها.. وفيّة في عين الشّجرة.. و مُتمرّدة في عيون الفصول.."، فالكلّ يرى الموقف من زاويته، لكن الإنسان الموضوعي مع نفسه ومع غيره، الذي لا تُألبه الحقيقة مهما عارضت زاوية نظره، وتصادمت مع مصلحته، يكون أكثرا تحريا، ليطرح السؤال التالي، لماذا هذه الورقة الوحيدة من بين أوراق الشجرة، التي لم تسقط في فصل الخريف؟
فصاحب السؤال هذا، أمره بسيط جدا، لكنه في غاية الأهمية، حيث تنطبق عليه المقولة التالية، كما تنطبق علي، وعلى قليل من أمثالنا، وربما أمثالنا كُثر، وبقينا لا ندري، "من مطالبنا القليلة جدا في هذه الحياة: أن لا يكذب علينا أحد.. !!"، ولكن كيف يقبلها من يقول، بأن السياسة ما هي إلا اعتماد السياسيين على الذاكرة القصيرة للجماهير، وعلى انعكاس الصورة وفعل التعبئة المرتبط بها، إنهم ببساطة يكذبون ليحسّنوا من مواقعهم الاقتصادية والمالية والإيديولوجية والفكرية والسياسية ، يكذبون ثم يكذبون ولا يملّون، ليستمروا محتفظين بمواقعهم الاجتماعية وصورتهم الإعلامية … ؟!
ربما هذا ما جعل الشعب الفرنسي يتذمر من أخطاء وفساد الطبقة السياسية الحاكمة، سواء اليمين منها، ممثلا في الديغوليين والحركة من أجل الجمهورية، أو من اليساريين، ممثلا خصوصا في الحزب الاشتراكي ب ليبرالييه واجتماعييه، وبذلك اكتسب، خطاب اليمين المتطرف، الممثل بالجبهة الوطنية، التعاطف، من قبل المحرومين والمسحوقين والمغلوبين على أمرهم، من غالبية الشعب الفرنسي.
وذات اليمين هذا، هو الذي ما فتئ تتصاعد أسهمه السياسية، ويكسب المزيد من الأصوات منذ 2002، حيث حصل في رئاسيات هذه السنة على ما يفوق نسبة 19% من الأصوات المعبر عنها، وفي رئاسيات عام 2017، ضاعف من تلك النسبة، لتصل إلى ما يناهز 34% من الكتلة الناخبة، أي ما يساوي 11 مليون ناخب، من 47 مليون ناخب، مُسجل في لوائح الإنتخابات الفرنسية.. !!
إنه الغول القادم بتوأدة، ليمحي ما تبقى من قيم عهد الأنوار الفرنسي المشرق، رغم ضحالة خطابه، المبني على الشعبوية وجس نبض العواطف للمهمشين والمنغلقين والضرب على أوتار القومية والوطنية و التيوقراطية، وتبني الخيرات المحلية لذوي الأصول الفرنسية، بإبعاد المهاجرين وكل الأجانب عن البلاد... الخ . دون الإفصاح حقيقة عن خطاب سياسي خلاق إنساني و راق، يحمل برنامجا واقعيا طموحا، بمعالم واضحة مبنية على أرقام علمية وآليات تطبيقية تمتلك قوة الواقعية على أرض الواقع.
كل التيارات السياسية التقليدية لم تستطيع الوقوف في وجه هذا التيار المتطرف الجارف، الذي يستفيد من فضائحهم وأخطائهم، ويحملهم مسؤولية كل الأزمات، ويقدم نفسه على أنه هو المنقذ، البديل الوحيد للشعب الفرنسي في كل ما يتخبط به من مآسي، كالبطالة (أزيد من ثلاثة ملايين ونصف المليون عاطل)، واندحار القوة الشرائية للطبقة العاملة، وأزمة التعليم بالنسبة للعائلات، تهديد نظام التعويضات الاجتماعية ونظام الصحة وأزمة الإرهاب... الخ.
هذه الأزمات التي تتوارثها الطبقات السياسية من انتخابات لأخرى، والذي ما فتئ بعضهم يُلصقها بكثرة المهاجرين على الأراضي الفرنسة، منذ تبناها الوزير الأول –إدوار بلادور في حكومة الرئيس الديغولي جاك شيراك، ومن بعده طبّع الرئيس ساركوزي مع الخطاب الفج حول خطورة المهاجرين في فرنسا وخطرالإسلاموفوبيا على فرنسا، وكانت هذه أحسن هدية تُقدم لليمين ولليمين المتطرف خصوصا، ليزيد في تعميق العداء للأجانب، ولا نستغرب حيث كان المرشح فرونسوا فيون لرئاسيات 2017، يمتح من ذات مصطلحات خطاب رئيسه ساركوزي، ولو في قالب برنامج إصلاحي..!
غير أن ظهور الشاب إمانويل ماكرون وزيرا للمالية في حكومة الاشتراكي إيمانويل فالس الأولى، تحت رئاسة فرونسوا هولند، ربما لم تكن اعتباطية، بل كانت تمشي وفق مخطط ستبدو ملامحه أكثر، يوم قدم استقالته بعد أقل من سنة من تعيينه في منصب حكومي لأول مرة في حياته، وأسس حركة "إلى الأمام"، وأعلن أنه سيترشح للرئاسيات عام 2017، وليس باسم اليسار، بل باسم حركة إلى الأمام وهي ليست لا باليسارية ولا باليمينية وإنما هي من "الوسط"... !!
حركة "إلى الأمام"، التي تحمل شعار الوسطية، تجد إعلان فرانسوا بيرو (François Bayrou)، الممثل التاريخي للوسط أول المعارضين لها، مما يدعم من يتهمونها، بأنها حركة تمثل النيوليبرالية والأوساط المالية والمؤسسات العالمية واللوبيات الإقتصادية الفرنسية الكبرى المستفيدة من العولمة.
اللوبيات هذه، استشرفت استياء المواطن الفرنسي من كلّ الطبقة السياسة التقليدية، وأهَّلت الشاب إيمانويل ماكرون، وجعلت من عذرية تاريخه السياسي، ليس نقيصة، بل جعلته امتيازًا وصفاءًا وطُهرًا،
وجعلت من انسحابه من وزارة المالية في حكومة الإشتراكي إيمانويل فالس، ليس كمساهم في الأزمة، بل كحامل لرؤية إصلاح جديدة تخالف رؤية من توافدو على سدة الحكم، يريد أن يطبقها بفريق ذي وجوه حكومية جديدة غير الوجوه السياسية التقليدية..
وهكذا كان الإعلام يقدم له خدمة ماركوتينغ "Super-Men"، منتوج سياسي، رئيس مُنقد لقيم المجتمع الفرنسي، كما قال الوزير السابق والمفكر والشاعر دومنيك دوفيلبان، فور إعلان مانويل ماكرون فائزا في الإنتخابات ب نسبة 65,8% من الأصوات المعبر عنها، كأصغر رئيس في تاريخ الجمهورية الفرنسية، بأنه "الرئيس الجديد، الذي يمثل التنوع والتجديد... فعليه أن يُوجد القرارات التي تبعث على الأمل".. !!
وبالفعل هذا ما كان يحمل مضمون خطابيه، سواء الذي ألقاه –بدون ابتسامة- في مقر حملته الانتخابية، والذي كان فيه يمثل شخص رئيس الجمهورية، بعبارات الحزم والثقة والاطمئنان وبعث روح الأمل وبث رسائل إلى الجميع، بقدرته على الحكم وتحقيق ما تعهد به للشعب الفرنسي على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وببعث القيم التاريخية الفرنسية، المبنية على عهد الأنوار الحاملة لهموم الإنسانية، من حرية وعدالة وأخوة... !!
وفي خطابه الثاني، في ليلة إعلان النتائج بالفوز، الذي كان مُتقن الإخراج، منسوج على مقاس النصر، نصر فرنسا في عرسها الديمقراطي، وبعث لقيمها التاريخية الناهمة من عبق مفكريها ورواد عهد الأنوار الكبار، يخطو إيمانويل ماكرون بانشراح، نحو أنصاره ومؤيديه وعائلته، في ساحة متحف اللوفر خلف قبته الزجاجية، ذات الشكل الهرمي، على إيقاعات موسيقى العبقري بيتهوفن، والتي تحمل أكثر من دلالة ليس للفرنسيين وحسب، بل للأوربيين وللعالم أجمع،
نعم إنها فرنسا التي تمشي –حركة إلى الأمام- بتوازن وبإيقاع جد مدروس، بل وراق جدا، لا ينسى أي شيء – أمشي مُنتصب القامة أمشي مرفوع الهامة أمشي (غناء مارسيل خليفة وكلمات سميح القاسم)-، بل يستمد قوته وإتقانه من الاستغلال الأحسن لكل شيء... !!
وكذالك بُعث الشاب إيمانويل ماكرون خارج القواعد السياسية التقليدية، لكن بمباركة القواعد المالية والاقتصادية الكبرى، فهل سيكون جديرا بالمسؤليات الرئاسية الكبرى للجمهورية...؟
أسئلة الحد من التيار الداعم للجبهة الوطنية المتطرفة، إرضاء الكتلة المصوتة لِـ ملنشون، إرضاء المهاجرين بعدم جعلهم دوما كبش فداء لكل سياسي أراد أن ينقض على السلطة، القضاء على البطالة (ثلاثة ملاين ونصف المليون عاطل)، هذا وكيف سيتخطى عائق المادة 49 من الدستور التي تكبل اليد التشريعية إلا بالمرور عبر مجلس النواب، وماذا عن طموحه في خلق أغلبية برلمانية ومصارعة اليمين واليسار على ذالك؟؟ أو كما قال هو نفسه، كيف سيوحد ما بين - les trois Frances-، فرنسا المتفائلة، فرنسا المحتارة، و فرنسا المُتعبة؟؟
في السياسة، لا يكفي الخطاب الواقعي، ولا تكفي تقنيات الماركوتينغ التجميلية، وهنا استحضر تجربة باراك أوباما وترشيح هيلاري كلنتون في الولايات المتحدة الأمركية، وما آلوا إليه من نتائج أتت برئيس لا يتقن الخطاب، ولا علاقة له بالسياسة، كل علاقاته مع المال والأعمال واللوبيات الاقتصادية فقط... !!
اللوبيات المالية والاقتصادية التي ساندت إيمانويل ماكرون، وصنعت منه باعث القيم والأنوار الفرنسية ومنقذ الشعب الفرنسي، الحامل لآماله وطموحاته وأحلامه،
هذه اللوبيات، هل ستبقى على مساندتها، إلى أن يحقق الرئيس الشاب رضا كل من صوتوا عليه –وهو من صرح: "لا يمكنني أن أخون من وضعوا ثقتهم وصوتوا علي"- ليس حبا فيه وحسب، بل وتجنبا لوصول اليمين المتطرف لأكبر منصب في الجمهورية، ألا وهو منصب رئيس الدولة، وهذا هو الخطر الأكبر الزاحف اليوم على بلاد قيم الأنوار... !؟.
ليست هناك تعليقات