السلطة هي منبع كل الشرور في العالم وخاصة إذا كانت مطلقة وغير مقيدة بضوابط قانونية وأخلاقية فقد تبسط يديها على كل شيء مستحوذة على الثروة والجاه والمناصب ومتغولة على العباد تقرب من تشاء لنعيمها وتنفي من تشاء عن محيطها بجرة قلم واحدة وبإشارة من طرف العين وقد زاد من تهور أفعالها تمتعها بالحصانة بحيث توجد فوق القانون أو قل هي القانون نفسه ولا سلطان عليها غير النوازع الشخصية والقوة الربانية.
وهي في عالمنا العربي الغارق في التخلف السياسي والاقتصادي لا ترى في المواطن إلا وجودا هامشيا لتنغيص رفاهيتها ولا تعامله إلا بالعصا الغليظة وتنظر إليه نظرة احتقار ودونية من فوق السحاب ولا ترى في الثروة إلا حقا مكتسبا وغنيمة تفعل بها ما تشاء وترى في الدولة محل إقامة دائمة يمكن توريثها للأبناء والأحفاد كقطعة أرض خاصة.
وفي داخلها يعيش الخوف والرعب من الرعية ويعشش التوجس والريبة من كل شيء بحيث تبني القلاع والقصور ذات الأبواب الحديدية وتكثر العسس والجواسيس ويشتد البطش وثقافة التخويف والمداهمات الليلية وتمتلئ السجون بالمثقفين والسياسيين والكتاب وأصحاب الرأي.
ورغم مظاهر القوة والجبروت والطغيان والتعالي فإنها منبطحة ومتوسلة ومتسولة للأجنبي وللدول المتنفذة طالبة الحماية والمعونة والتدخل العسكري عندما يشتد الحراك الاجتماعي وتظهر بوادر للثورات الاجتماعية وكثيرا ما يكون مصيرها مرتبطا بما يحاك في الدوائر الخارجية وما تطبخه المخابرات العالمية في الظلام.
وحتى التوجهات الديمقراطية وليدة تطور وعي نسبي للمجتمع المدني رأتها السلطة محاولة انقلابية ومؤامرة خارجية لإزاحتها من الحكم وللمسايرة جعلتها عنوانا براقا على سطح الأحداث لا غير ومفردة يلوكها الإعلام والنخب ولا ترى جذورا لها على أرض الواقع وبقيت مجرد شعارات جوفاء لا تسمن ولا تغني من جوع.
فالتفقير الممنهج على المستويين المادي والمعنوي لأغلبية الشعب لعقود طويلة بحكم تمكن القلة من دواليب الدولة والثروة لا يمكن الجائعين والمهمشين من التفكير أصلا في غير لقمة العيش وإشباع البطون والجري وراء السراب فكيف لهؤلاء استعمال عقولهم لتلمس الحكمة والتفكير المنطقي بعيدا عن الحاجيات الأساسية المفقودة.
ولعنة السلطة أنها لا تعيش واقعها ولا ترى ما حولها ولا تريد غير مدحها ومسايرتها وغض الطرف عنها والقبول ببطشها والتمسح على أعتابها وتقديس أفعالها وشخوصها وعدم التعرض لها بالنقد والتجريح وخدمتها وطأطأة الرأس أمامها والخشوع في حضرتها وذلك مهما أخطأت وتغولت وأفسدت فهي الحصينة المحصنة صاحبة العصمة والصولجان والقرار الأخير.
فالمجتمع يعمل من أجل خلق الثروة لتذهب إلى خزينة السلطة في نهاية الأمر فترمي الفتات لمن تشاء حسب ميزان الطاعة والولاء وتغضب على من لا يمشي في ركابها فتجعل منه مواطنا منبوذا ناقما وساخطا فربما يصاب بالجنون أو ينتحر أو يحترف التسول أو يهاجر أو يحرق ليبتلعه حوت البحر الأبيض المتوسط.
ولعنة السلطة تصيب صاحبها بمرض الأنا والعظمة والتعالي المزيف فينغلق على نفسه ويغادر مدينة المواطنة والبساطة والعفوية فيصاب بالوسواس القهري والخوف من الآخر ومن لعنة التاريخ وقد تتغير الأحداث فجأة بدون مقدمات فتهتز العروش وتزبد وترعد وتتلبد الغيوم فتمطر وقد يحدث الطوفان فيقتلع الجذور والأغصان.
فمن مكر التاريخ أن السلطة غاوية للنفوس الضعيفة بالأساس وفي بلاد الشرق دائمة بالتوريث وبالسطو المسلح نافية وقاهرة للمواطن متملكة لخزائن الأرض وما فوقها، هي امتداد للقدرة الإلهية وتكاد تكون مقدسة وصلاحياتها مطلقة وبذلك هي فوق القوانين والدساتير وهكذا فالكلام عن الديمقراطية هو لعبة السلطة المحبذة في هذه الأيام للتلاعب بالعقول وتزييف الوعي والتحايل على ذكاء وفطنة الشعوب.
والتاريخ وحده بمكره الاسطوري وصيرورته الحتمية يعطي للعنة السلطة صداها الحقيقي حتى تعود صاغرة ومتواضعة بين أحضان أهلها تأكل أكلهم وتنام في فراشهم وتمشي في طرقاتهم تحت قبة سمائهم وشمسهم الدافئة.
ليست هناك تعليقات