« غسان كنفاني حوّل المأساة الفلسطينية أدباً حقيقياً »... بقلم :عباس الجمعة
من المستحيل أن تقرأ عن المناضل غسان كنفاني، ثم لا تفكّر بفلسطين، ولا تفكّر بحريتك الشخصية، وبتحرير بلدك، وتحرير عقلك، حيث شكل نموذجاً من الإبداع المكتنز بالرؤى الحداثية لأدباء وشعراء جادّين، شغوفاً بالحياة وبالتمرّد على الموت وصانعيه، فكان غسان اللاجئ الفلسطيني الشاب، سلاحه الكتابة، لا يتعب، يكتب ويكتب ويكتب، ويتنقّل من دفتر الرواية إلى دفتر الدراسة إلى دفتر رسائل الغرام إلى الصحيفة، والتحليلات السياسية والخاطرات الأدبية.
فكان المناضل غسان كنفاني الناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية ومسؤول إعلامها المركزي، وكان الكاتب والصحافي، والروائي، يمنح الكتابة ساعات يومه ووهج قلبه وخلاصة عقله، متألقاً، متأنقاً، جميلاً، طيباً، ينبض بصرخات المعذبين والعشاق في آن واحد، انخرط بالثورة الفلسطينية وتحديداً في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بكلّ وجدانه وحيويته وجرأته وصدقه وقلبه الجريح.
نعم غسان المثقف والباحث والكاتب والصحافي والمنظّم والمناضل أعطى الجبهة الشعبية كلّ وقته فأحبه رفيق دربه الحكيم الشهيد جورج حبش، لأنه اعتبره وحده، أيقونات غامضة من سحرٍ يأخذ قلوب الشباب قبل عقولهم، حين كانت القلوب والعقول تهجس بالتحرير والثورة والوحدة والتغيير التقدّمي واليسار وتحدّي العالم.
غسان كنفاني هو أول مَن عرّف العرب بشعراء المقاومة في فلسطين، وأول مَن حوّل المأساة الفلسطينية إلى أدب حقيقي، بلا نواح ولا عنتريات، وأوّل من قدّم الفلسطيني كعربيٍ متصل لا منفصل، مبدعاً ومناضلاً وملتاعاً بالحب ومنتجاً وأنيقاً.
من هنا كانت صرخة غسان كنفاني التي أيقظت الفلسطيني لكي يقرع جدران الخزّان، كان المشرّدون الفلسطينيون الهاربون من جحيم المخيمات والفقر والتهميش يتسلّلون إلى ديار الهجرة النفطية، بحثاً عن مستقبل فردي، مفهوم، بالطبع، أنّ الإنسان بغريزة البقاء اللعينة قد يقبل أيّ مذلّة، وقد يتحمّل أيّ هوان، وأيّ أذى، مهما يكن، لكي يبقى على قيد الحياة، لكن اللامفهوم، اللامنطقي، اللاغريزي، أن يقبل الإنسان الموت، مجاناً، فلا يصرخ طالباً النجدة.
هكذا رأى غسان كنفاني شعبه، مشرّداً متسللاً فاقداً حتى للدفاع الغريزي عن حقه في الحياة، فأطلق صرخة الثورة، اقرعوا جدران الخزّان، ولا توجد صرخة أعمق وأصدق وأكثر إيلاماً وتحفيزاً منها، أيقظت مشاعر الكرامة الإنسانية لدى جيل كامل.
في السبعينيات وتحديداً في شهر اذار من عام 1972، وعند انتمائي للثورة الفلسطينية شبلاً، كنت اقرأ جريدة المحرّر، فقرأت لغسان كنفاني مقالاً عن ألم ووجع الفلسطيني، فقد كان طاقة لا توصف وكان يستغلّ كلّ لحظة من وقته دون كلل، حيث رأيت في مقاله ذاك انه أكثر حرية وتلفتاً وانفلاتاً مما هو في مجالاته الإبداعية المتعدّدة الأخرى.
في بيروت كان الشاهد والشهيد، كانت بيروت المجال الأرحب حيث لفت نشاطه ومقالاته الأنظار إليه كصحافي وكاتب ومفكر وناشط سياسي وثوري، حيث حوّل مجلة «الهدف» منبراً للإعلام الثوري ينادي بالوحدة الوطنية والعمل الثوري والفدائي الفلسطيني، ورفع غسان شعار كلّ الحقيقة للجماهير واختاره عنواناً للمجلة، وقد كتب غسان في العديد من أبواب المجلة إضافة إلى كتابة الافتتاحية.
وغسان أول شهداء الكلمة الفلسطينية المقاتلة، في تاريخ الثورة الفلسطينية المعاصرة، عاش مقاتلاً بعيداً عن أرضه، من أجل أرضه المستباحة، يقاتل بكلّ دمائه النبيلة، وكان يعرف أنّ التراجع موت، وأنّ الفرار قدر الكاذبين، وقد تميّز بتفكيره الثوري ونضاله في سبيل وطنه المغتصب، وتجسيد مأساة شعبه بأعمال إبداعية متنوّعة، صوّر فيها محنته وتشرّده وصموده، قضى غسان كنفاني حياته مناضلاً، وصحافياً، وكاتباً، وسياسياً، وروائياً، وقاصاً، وكاتباً مسرحياً، وناقداً أدبياً، وباحثاً، ودارساً، وفناناً تشكيلياً، على درجة عالية من الوعي بوسائله الفنية.
ومثلما كانت حياة غسان شاهدة على وحشية وهمجية الاحتلال الصهيوني الإحلالي، كان استشهاده في شهر حزيران من عام 1972 على أيدي جهاز المخابرات الصهيونية الموساد الشاهد الحي على أنّ الكلمة الرصاصة… الكلمة المقاتلة أمضى على الأعداء من السلاح.
عبّر غسان كنفاني في كلّ ما أنتجه عن معاناته ومعاناة شعبنا الفلسطيني، إلى جانب إبداعه الصحافي والقصصي والروائي، ودوره السياسي، فناناً تشكيلياً مبدعاً أيضاً، حيث قدّم جانباً هاماً من رحلة عطائه، جانب فسح له المجال واسعاً لتفريغ ما حمل من فكر ورؤية، على سطوح بيضاء لتكون لوحات يحاكي من خلالها الآخرين ولتبقى في ذاكرة الأجيال.
ختاماً: انّ ذكرى غسان كنفاني تأتي في مرحلة من أشدّ المراحل خطورة، حيث تشتدّ الهجمة الامبريالية الصهيونية الإرهابية على المنطقة، من خلال ارتكاب المجازر الإجرامية التي لا تقرّها الأديان السماوية ولا تبيحها الشرائع الإنسانية ولا تقبلها المواثيق الدولية لحقوق الإنسان لأنّ فيها أزهاقاً للروح البشرية استخدام الأحصنة اثناء قطع الرؤوس والموت غرقاً في أقفاص الحديد ووضع قنبلة في العنق وغير ذلك من الأساليب المبتكرة البشعة الجديدة التي هي حلقة من حلقات الإرهاب الأسود المنفلت من عقاله والمتنقل والتي لم تقلّ أهمية عن الإرهاب الصهيوني، بينما يقرع الخزّان،
وقد يثور على الانقسام الفلسطيني، وعلى تصفية القضية الفلسطينية، وعلى الكمبرادور، بشقيه، المدني والملتحي، لذلك كله، نقول في ذكراك، كفى انقساماً فلسطينياً، فلنعد الى خيار شهداء الموقف والكلمة، الى الشهداء غسان كنفاني ومحمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وفدوى طوقان، الى مواقف القادة العظام الرئيس الرمز ياسر عرفات وابو العباس والحكيم وابو علي مصطفى وعمر القاسم وسمير غوشة وسليمان النجاب وكلّ القادة العظماء الذين شكلوا لفلسطين وشعبها منارة مضيئة، ونحن نتطلع اليوم الى كلّ القوى الحية في المجتمعات العربية للوحدة في مواجهة الأفكار التكفيرية والقوى الإرهابية، وكلّ من يساندها ويوفّر لها الرعاية والدعم، واعادة البوصلة نحو فلسطين القضية المركزية للأمة العربية.
عباس الجمعة
ليست هناك تعليقات